هل يعبأ الإنسان بإرادة الكائنات التي يجري عليها تجاربه؟

منصة 2024/04/16
...

 وداد سلوم 

مع كل انجاز علمي جديد تتصاعد مخاوف البشرية، فقد علمتها التجربة أن الأثمان دوما كبيرة طالما أن رأس المال سيهرع لاستخدام كل شيء مقابل مراكمة أرباحه منذ اختراع البارود وحتى اكتشاف الذرة واستنساخ دولي وصولا إلى وباء الكورونا والذي صنف بالفيروس المصنع.فمن أين تأتي أخلاقية أي عمل علمي؟ وما هي المعايير؟ سؤال اشكالي كبير يطرحه الفيلم المصنف خيال علمي والمأخوذ عن رواية كائنات مسكينة للكاتب الأسكتلندي غراي الازدير وهو من إخراج اليوناني يورجوس لانثيموس وانتاج 2023. وقد نال أربع جوائز أوسكار لهذا العام، والأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي.


عرف عالم يورجوس لانثيموس السينمائي بأسلوبه الخاص في إثارة الرعب والدهشة والغرابة، فبطل الفيلم طبيب مشوه الوجه إذ كان والده الطبيب يجري عليه التجارب من دون شفقة أو رحمة، حتى وصل به الأمر للخصي، لقد استخدمه كفأر تجارب غير عابئ بالألم الذي يسببه له! فهل يعبأ الانسان بما يسببه للمخلوقات التي يستخدمها في تجاربه؟

 صارت القسوة أسلوب الابن أيضاً حين أصبح طبيباً مشهوراً له ابحاثه، فسنجد في حديقته حيوانات غريبة ككلب برأس إوزة أو دجاجة برأس خنزير.  إنه يتعامل مع الجسد على أنه مجرد أعضاء يمكن تبديلها بأخرى ويمكن تقليبها دون أدنى مشاعر، وهذا بحد ذاته مقزز لكنه يمارسه باعتياد فكل شيء مباح أمام العلم.  وحين التقط جسد المرأة بيلا التي قامت برمي نفسها من الجسر وهي حامل لم يفكر بإعادتها للحياة، بل قام بتجربة مجنونة وهي زرع دماغ جنينها في رأسها قبل إحيائها بالصدمات الكهربائية، نجحت العملية وعاد الجسد للحياة ولكن بعقل طفلة تبدأ باكتشاف عالمها الصغير. 

حيث تظهر حركاتها الغريبة نتيجة عدم التوافق بين العقل الطفولي والجسد الناضج مما يوحي للعين بعطب ما، أبدعت في تمثيل دورها الممثلة إيما ستون ونالت عليه جائزة الأوسكار كأفضل ممثلة. 

يختفي عدم الانسجام تدريجياً مع نمو الفتاة العقلي والذهني السريع والذي يشير إلى ذكائها وتبدأ بالتعبير عن نفسها بحرية كاملة فالطبيب يتركها تعيش على سجيتها ليقوم بمراقبتها ورصد التقدم الذي تحرزه مقابل الزمن، المهمة التي يوكلها لتلميذه النجيب (الممثل رامي يوسف). 

ورغم ان علاقة حب تنشأ بين التلميذ وبين بيلا، إلا انها تغادر مع المحامي الماكر الذي كان عليه صياغة عقد زواجهما، إذ يغري الطفلة المراهقة والتي لا تعرف شيئا عن العالم الخارجي لمرافقته في رحلة إلى لشبونة. لتبدأ بيلا بمعرفة العالم واكتشافه حيث يتركها المحامي الذي قام بدوره الممثل مارك روفاليو تكتشف كل شيء بمفردها ودون قيود فطريقتها بالتعبير واندفاعها المحموم تجاه اللذة تزيد إثارته إذ تخترع تعابير ومفردات خاصة إلى ان تشتعل الغيرة في صدره فيقوم بنقلها في صندوق إلى مركب في جولة بحرية، وذلك لضمان بقائها تحت ناظريه.

 كان المركب كسجن لها اذ تشعر بيلا كأنها مختطفة لكنها تتقبل الواقع، ثم تبدأ بالانفصال عن عالمه، حين تتعرف على سيدة مسنة على سطح المركب، تلفت انتباهها إلى القراءة فتصبح شاغلها على شاكلة السجناء، الذين يقضون وقتهم بالقراءة. وتبدا بفهم العالم من الكتب بداية ثم ترى وجهاً آخر له حين تنظر إلى شاطئ الإسكندرية حيث ترى الأطفال والفقراء يموتون جوعاً و تندفع لمساعدتهم فتفقد مع المحامي كل أموال الرحلة، مما يجعل القبطان يرميهما في المحطة التالية مشردين لا يملكان ثمن العودة وبينما يكيل المحامي الشتائم تتعامل بيلا مع الموضوع ببساطة، وتعمل في بيت دعارة مقابل الحصول على الطعام  مجربة الحياة الحقيقية، لقد بدأت تختبر الحياة في معمعة العمل القذر (أقدم مهنة في التاريخ) ،حيث تتعرض لكل اشكال المعاملة الخشنة وتكتشف أن  المتعة ليست في الجنس بحد ذاته بل في الرغبة وأن الجنس يفقد متعته حين يصبح مقابل المال و تكتشف ضعف البشر أمام غرائزهم وأنواع الرجال الذين يخبؤون تحت الجنس عقدهم وضعفهم . لقد بدأت تكبر وتنضج وتبني ذاتها وفكرها ورؤيتها للعالم المتخفي تحت صورته الظاهرة. وتقرر إكمال تعليمها في الجامعة، وتتعرف على فتيات مثلها ضحايا ماكينة العمل لهن ميول سياسية. 

وحين تعرف أن والدها الطبيب مصاب بالسرطان وعلى فراش الموت تعود لرؤيته حيث تلتقي زوجها السابق (قبل الانتحار) والذي يطلب منها العودة فقد اختفت دون أن يعرف كيف ولماذا! وحين تعود معه تكتشف الواقع الذي دفعها للانتحار. كان الطبيب الأب (وليس مصادفة أن في اسمه كلمة إله) ضحية مورس عليها العنف الأسري من قبل والده مما دفعه لتلك القسوة المنفرة، إننا نربي في منازلنا المجرمين والمبدعين والعلماء دون أن ننتبه!  أما أعماله فكانت في الظاهر قاسية وعنيفة لكن الواقع كان أقسى والإنسان الذي وضع المعايير الأخلاقية يستخدمها كغطاء لأكثر الأعمال لا أخلاقية.

فقد حاول زعزعة المفاهيم عند طلابه وتغيير فكرتهم التقليدية بطريقة قاسية وفجة فنرى نفورهم منه في بداية الفيلم، بينما سنجد أنه كان الأكثر فعلاً انسانياً فقد انتشل حطام إنسان دمره المجتمع ودفعه للانتحار وأعاده للحياة لنحصل على (بيلا) كائن جميل حر ومتحرر منفتح ويسعى لبناء ذاته ومعرفته.  ولم يمارس عليها أي ضغط او يملي عليها أي تصرف، فليس كل تجربة علمية ستجلب عواقب وخيمة أو كائنا مشوهاً (فرانكشتاين) الذي كان هنا هو الطبيب وليس بيلا! 

ولعل فكرة أنها الأنثى فكرة مقصودة فحين تدخل بيلا دار الدعارة ترى أن العهر ليس سوى تحدياً لرغبة الرجال في التملك فهم (الرجال) الذين يمارسون معها، العنف وأقذر الأساليب، وأن الأخلاق ليست سوى كذبة إذ تكال بمعيارين .

 فالأشياء ليست كما تبدو للمراقب دائماً ولعل استخدام المخرج لأسلوب التصوير بعدسة عين السمكة إنما كان تأكيداً على عدم الحكم على الأشياء من زاوية واحدة بل علينا توسيع الرؤية والنظر بزاوية مفتوحة لتقدير الأمور بشكل أفضل. منحت طريقة التصوير بعدسة عين السمكة للفيلم غرائبية محببة فهي توحي أحيانا بلقطات بانورامية وأحيانا بدور المتلصص من ثقب خارجي مما يثير التشويق والانتباه.

 كما قام باستخدام المناظر بطريقة مدهشة وحيوية والألوان الموحية فحين عرض شاطئ الإسكندرية، حيث الأطفال والماس يموتون من الجوع، شاهدنا أن الدرج بين السفينة والشاطئ مهدم تعبيراً على الصلة المفقودة بين عالمين مختلفين لا تربطهما إلا نظرات الشفقة والاستغلال. بينما كانت الألوان ترابية تميل للتعبير عن الصحراء والحياة الفقيرة، أما الملابس والديكور فلا تنتمي لفترة تاريخية محددة بل تحمل شيئاً من القديم وشيئاً من الجديد الغريب المتخيل. ليقدم لانثيموس حكاية متخيلة تحمل بعض الكوميديا المتهكمة في ثناياها وتعرض معضلة الخير والشر في إنجازات البشرية وأخلاقية المعايير الحضارية التي وضعها الإنسان. 

فالبشريّة ليست سوى كائنات مسكينة عبدة لأنظمتها ومعاييرها وحين تركت البطلة على فطرتها الإنسانية الخارجة عن هذه المعايير والغير خاضعة لها استطاعت أن تنمو بحرية نفسياً واجتماعياً وتكون انساناً حقيقياً كاملاً واضحاً وجريئاً في خوض التجارب والتعلم منها وقادراً على التمييز والفعل دون أن تملي عليه معايير المجتمع تصرفاته.لقد كانت تجربة علميّة مثيرة وأكثر إنسانيّة من الواقع الحقيقي. والفيلم مختلف وجدير بالمشاهدة.