سناء الوادي
هذا ما خَلُص إليه المؤرّخ اليهودي “بيني موريس” في مقالته التي نُشرت في صحيفة نيويورك تايمز الأسبوع الماضي، والتي جاءت في محتواها على النقيض تماماً من مقالة الصحافي الكاتب “ توماس فريدمان “في ذات الصحيفة وذات التوقيت، بَيدَ أن كلتاهما عبّرتا عن قلق الكاتِبَين الكبير على مستقبل الوجود اليهودي الصهيوني في فلسطين بعد طوفان الأقصى والصمود المبهر الذي أبدته حركة حماس المقاوِمة لستة أشهر خلت هشَّمت خلالها صورة إسرائيل، وعرَّت ضعفها وعجزها وضعضعت جدران حلفائها الداعمين لها بعدما انتفضت شعوبهم على إمدادهم لآلة القتل والإبادة الوحشية بحق الشعب الأعزل الفلسطيني.
فريدمان الكاتب الأكثر متابعة من قِبل الرؤساء الأمريكيين في العشرين عاماً الأخيرة ينصح الربيبة إسرائيل بالاستسلام لمطالب حماس فيما يخص موضوع الرهائن الإسرائيليين ويطالب بالانسحاب الفوري من قطاع غزة وإعادة النازحين لمناطقهم، وأشار إلى أن تبقى حماس حاكمة في القطاع وأن تخرج منها قوات الاحتلال مهزومة ذلك خيرٌ من المخاطرة الهائلة الوجودية على الكيان الصهيوني، وعلى حد قول الكاتب على إسرائيل العودة خطوات إلى ما قبل السابع من أكتوبر والسير في طريق تطبيع العلاقات مع العالم العربي والإسلامي.
وفي هذا السياق قد يكون غاب عن قلم فريدمان الاعتراف بأنه حتى لو عادت إسرائيل لسابق خططها الاستراتيجية فلن يتم تجاهل الأصوات المتعالية عنان السماء الرافضة للتطبيع دون الرضوخ لحل الدولتين مع كامل الصلاحيات والاستقلالية، ناهيك عن فشل أول أهداف العدوان على غزّة ألا وهو تهجير السكان استكمالاً لما بدأه “ ديفيد بن غوريون “ قبل ثمانين عاماً بالتطهير العرقي لأرض فلسطين.
هذا ومن الاستحالة أن تعود القضية الفلسطينية لأدراج النسيان مرة أخرى فمن غير المنطقي أن ترفع دولتان قضايا جنائية ضدها إلى محكمة العدل الدولية ومن ثَمَّ يتم النظر إليها بكونها الدولة الضحية وقيعة المحرقة الهتلرية ـ الهولوكوست ـ عقب تخطي عدد الشهداء في غزة حاجز الثلاثة والثلاثين ألفاً وفقاً لآخر الاحصائيات.
لربما أكثر ما يخشاه فريدمان تصرفات رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الحمقاء والتي كان آخرها قصف السفارة الإيرانية في دمشق آملاً من وراء ذلك اتساع رقعة الصراع وإدخال الجانبين الإيراني والأمريكي رسمياً في الحرب وإشعال المنطقة والتي سوف يتبعها حُكماً ارتفاع أسعار النفط وإرباك خطوط التجارة البحرية عبر مضيق باب المندب وهو ما سينعكس بالضرر البالغ على الغرب وأمريكا قبيل موعد الانتخابات الرئاسية في واشنطن.
وبالعودة خطفاً إلى سطور البداية والمؤرخ موريس الذي عُرف بالعنصرية التي ظهرت على حقيقتها بعدما حاول اعتناق الشفافية والمصداقية التاريخية عندما كشف للجميع الوثائق التي كشفت إسرائيل عنها السريّة في الثمانينات والتي تكذب الرواية الرسمية الحكومية بهجرة الفلسطينيين الطوعية من أرضهم عام 1948م وتفضح المجازر والإبادة التي مُورست آنذاك وتسلّط الضوء على من كان السبب وراء الشتات الفلسطيني في بقاع العالم، على إثر جرأته ومصداقيته تلك انضم موريس لفئة المؤرخين الجدد وبات يعتدُّ برأيه لكنه ما فتئ عاد سريعاً لعنصرية الصهاينة المتجذرة وها نحن نراه في مقاله الأخير يطالب نتنياهو بغزو رفح والقضاء نهائياً على كتائب حماس المتمركزة هناك وإلاَّ فإن ذلك يعني عودة الأخيرة في وقت ما أقوى وأشرس وهذا بالتأكيد سيكون فيه نهاية الوجود اليهودي في فلسطين، بل إنه ذهب بعيداً بأمنياته التي تحتم على نتنياهو أن يستمر بالتطهير العرقي فاليهود عليهم القيام بكل ما يلزم لحماية أنفسهم ووجودهم، ويدعو الجيش لتجاوز كل العقبات والأصوات الحليفة الداعية لعدم اجتياح رفح وعدم الاستكانة للضغوط المتمثلة بالدرع البشري البالغ مليون وأربعمئة ألف شخص موجودين فيها.
لا يختلف ما سبق ذكره في غاية الكلام عمّا حذّر منه مؤخراً “ إيلان بابيه “ أحد المؤرخين الجدد من اليهود واعتبره مؤشراً خطيراً لبداية نهاية المشروع الصهيوني فموقف الجيل الجديد من اليهود حتى في أمريكا نفسها يأتي على عكس الأجيال السابقة والتّي حتى أثناء انتقادها لإسرائيل تعتقد أن هذه الدولة هي الأمان والتأمين لليهود ضد محرقة أخرى أو موجات من معاداة الساميّة.
أخيراً وليس آخراً لم يعد يخفى علينا عميق القلق الذي تنطق به كلمات الكتّاب اليهود والمناصرين لهم على استمرار حياة هذا الزرع الخبيث في جسدنا العربي ولذلك دلالة كبيرة لاحتمالية التوحش الغربي في قادم الأيام بالدفاع عن هذا الكيان الذي وحسب اعترافهم لا يمثل مجتمعاً طبيعياً لكنه عبارة عن كيان وظيفي يلعب دور مخلب القط لحماية مصالح الغرب وخدمته.
كاتبة وإعلامية سورية