{دعني في الطين}.. غموضٌ ورمزيَّات وعبث

منصة 2024/04/17
...

 علي فائز

مضت أيام على العرض الأول للفيلم القصير {دعني في الطين} كتابة وإخراج محمد آدم في قصر الثقافة والفنون في الديوانية، وهو أول أعمال الكاتب.  الفيلم يتناول موضوع الوجود والصراع الداخلي للإنسان، والعالم الخارجي من حوله في لغة سينمائية عالية الرمزية، مدة الفيلم 12 دقيقة يبدأ بصورة السماء نزولاً إلى الأرض، حيث سكين مغروسة في باطنها، وثقت لصراع توج بهزيمة بين الإنسان ووجوده،
 هذا الإنسان الذي قرر أن يخوض حربه مع اللا ممكن وهو على علم بهذه النتيجة المنهارة سلفاً.
تتحرك الكاميرا مرة أخرى من السماء الملبّدة بالغيوم نزولاً إلى مكب نفايات يرتفع منه الدخان ويحتوي على ملابس داخلية أنثويَّة حركة الكاميرا من الأعلى إلى الأسفل من السماء إلى مكب نفايات، تمثل رسالة موجهة إلى خالق الوجود بأن ما تحت سمائك خراب فحسب خراب موسيقاه عواء كلب لا يصمت ولو لوهلة على امتداد زمن الفيلم، كأنّه ينتظر شيء ما أن يحصل.
يمكن وصف الفيلم بأنّه شديد الغموض ويحمل في طياته رمزيات عالية وكثير من العبث، وهذا ما يجعله على قدر عالٍ من السيولة الامر الذي يستلزم استعصاء إيجاد المعنى أو خلقه؛ لكثرة المعاني المحتملة.
فهكذا أفلام لا تجعل المشاهد مجرد متلقٍ أو مستجيب كما هو حال الأفلام الانطباعية، بل المشاهد هنا جزء مهم يشعر كأنّه يتحرك وسط الشاشة.
الزمن في الفيلم، زمن ذاتي ويستحيل قياسه لأنّه يختلف من شخص لآخر، ويسميه الفلاسفة الوجوديون (الزمن الوجودي) فساعة السعادة تختلف عن ساعة الألم، وعليه فإنّ على الرغم من أن مدة الفيلم 12 دقيقة غير أنَّ المشاهد يشعر بأن الزمن قد تجاوز الساعة بسبب وقع الفيلم الذي يفتح عيون الناس ويجعلهم يتأملون وجودهم الذي نسج من الخراب والهشاشة، والزمن هنا وفق تقسيماته (زمن دائري)، يعود أبداً إلى النقطة التي انطلق منها غير قابل لأية تسوية، وحركة هذه الدائرة المملة تتمثل في صعود الكاميرا ونزولها وتغيّر شكل الملابس وحركة الطيور والأطفال التي تشير إلى عدم الاستقرار في فضاء جحيمي، كان أيام أو أشهر مرت لكن الحال ذاته ولم يتغير شيء فليس تَحْتَ الشمْس جَدِيد.
هذا الشكل من الزمن الذي هو على خلاف (الزمن السهمي) الذي ينطلق من نقطة وينتهي بنقطة نجده في فيلم (The Turin  Horse) للمخرج المجري (بيلا تار) وفيلم  (Sátántangó) لذات المخرج، أيضا تتكرر المشاهد هناك مما يشعر المشاهد بثقل الزمن ويصاب بحيرة وجودية يصعب معها الإجابة عن جدوى الأفعال والغايات.
 وجود الملابس الجنسيَّة للمرأة باعتبارها رمزاً للخصوبة أو هي أصل للوجود وسط مكب النفايات تحقق ما يريده عنوان الفيلم (دعني في الطين) فأنا اعترض أن أكون ذبابة لتسلية الإلهة كما يقول (شكسبير) وان هذه الرغبة المشتعلة التي تكاد تفتّت أحشاء الإنسان ما هي إلا منظفة سجائر فهذا الانزياح بين منفضة السجائر بكونها ملابس داخلية يصب فيها الإنسان همومه، همومه التي تطفئ فقط لو أعاد النظر في الأشياء ونظر إلى أبعادها الواقعيّة من دون فلاتر اعتمدت أن تخفي عنه بشاعة الوجود، فهذا الفيلم يضعنا من دون مواربة وجهاً لوجه أمام الأسئلة التي طالما أرقت الإنسان وكثفت الغبار حول مصيره.
وثمة تفاصيل أخرى في الفيلم شديدة التأثير مثل وجود الملابس الداخلية للنساء موضوعة على ربوة وجنبها حقيبة كتف، هذا المشهد لجسد مكتمل ينتظر أن تولج فيه الروح يفكك لنا شفرة العنوان الاحتجاجي مرة أخرى، دعني في الطين هنا "لا شيء.. لا شيء.. غير دوران عجلة المأساة.
وجود ملابس النساء جنباً إلى جنب في بعض المشاهد شكّلت علاقة للحوار فكان هذه الأجساد غير المرئية التي حضرت من خلال الزمن الماضي الذي تمثل في الملابس المتهرئة بين (النفايات) التي تنتهي عندها الأشياء عديمة الجدوى، مثل القبور.
رمزية النفايات أيضا تحيلنا إلى مسرحية (نهاية اللعبة) لـصامويل بيكيت حيث نجد في الغرفة صندوقين للنفيات يطل منهما العجوزان (نيل وناج) ويبدآن حواراتهما المقتضبة نذكر على سبيل المثال هذا الحوار:
"نيل: التعاسة هي أكثر ما يُضحك في هذا العالم، نضحك منها، نضحك منها بملء قلوبنا... ولكن.
تتابع نيل: في البداية، لكنها تبقى دائماً كما هي، تشبه الحكاية الجميلة التي نسمعها باستمرار"، رمزية النفايات عند بيكيت في هذه المسرحية هي ذاتها في فيلم "دعني في الطين" ان تقضي عمرك في سلة مهملات او كومة نفايات مما يجعل الفيلم والمسرحية يسيران حثيثاً إلى نهايتهما المحتومة، حيث الحياة هي النفايات ذاتها وهذا ما يفسّر الصورة الشهيرة لصموئيل بيكيت وجلوسه وسط النفايات كأنّه يريد محاكمة الوجود.  
وفي مشهد آخر يظهر ملابس نسائيّة معلقة في حبل غسيل يملأها الهواء ويلاعبها كان تنتظر قادماً من بعيد ليتبين فيما بعد ان هذا الانتظار يفضي
إلى اللا شيء، فهو مجرد تمرين لليائسين!.