أُسقطت الصواريخ لكنَّ رسالة طهران وصلت

قضايا عربية ودولية 2024/04/18
...

 اسفنديار باتمنغليدي 

 ترجمة: أنيس الصفار


في تلك اللحظة بالذات قاطعت بث الخطبة صورة وجه أطلَّ من وسط الحشود هو وجه العميد أمير علي حاجي زاده، وهو المسؤول الذي كان يتولى قيادة القوة الجوفضائية التابعة لفيلق حرس الثورة الإسلاميَّة. ابتسامته العريضة كانت ابتسامة الواثق العارف.

بعد ذلك بأيام قليلة، في يوم الأحد بالتحديد، انطلقت من إيران 300 طائرة مسيرة وصاروخ بعيد المدى متجهة صوب إسرائيل. ذلك الهجوم اتسم بأنه المرة الأولى التي تهاجم فيها إيران إسرائيل مباشرةً من أراضيها بدلاً من الاعتماد على حلفائها. ورغم أنَّ الطائرات المقاتلة والدفاعات الجوية الإسرائيلية تحركت للرد، بمساعدة من جانب القوات الأميركية والبريطانية والفرنسية والأردنية، ونجحت في اعتراض معظم الطائرات المسيرة والصواريخ فإنَّ مجرد مشهد الصواريخ وهي تقطع السماء من فوق قبة الصخرة، التي تعدّ ثالث أقدس الأماكن لدى المسلمين، بدت نذيراً بقرب اندلاع حرب شاملة كاملة الأبعاد.

بيد أنَّ تغير الديناميكيات في واشنطن هو الأهم في تحديد مسار هذا الصراع من الديناميكيات في تل أبيب أو طهران، إذ تفيد التقارير بأنَّ الرئيس الأميركي “جو بايدن” قد حذر رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتانياهو” من أنَّ الولايات المتحدة لن تدعم أي هجوم مقابل تشنه إسرائيل على إيران. التصريحات التي أدلى بها المسؤولون الأميركيون إلى مراسلي الوكالات تشي بأنَّ بايدن تساوره مخاوف من أن يكون نتانياهو ساعياً لجرِّه إلى صراع أوسع.


حرب الظلال

كانت إيران وإسرائيل منغمستين على مدى سنوات في “حرب من بين الظلال”، وقد تجرّعت إيران في هذه الحرب إحراجات عدّة، إذ قتل لها جنرالات كبار واغتيل علماء نوويون، كما تكرّرت الهجمات الإلكترونية الإسرائيلية على المواقع العسكرية والمنشآت النووية والبنى التحتية المدنية في جميع أنحاء إيران. 

صبر إيران على تلك الهجمات وامتصاص آثارها عكس خوفاً من أن يؤدي الردّ المباشر إلى حرب مع إسرائيل تخرج من الظلال إلى العلن. بل أنَّ القادة العسكريين في إيران، رغم كل رغبتهم في استعراض قوتهم، بقوا حريصين على التزام الحذر حتى في هذه المرة لئلا يطلقوا حرباً مع إسرائيل لا يضمنون الفوز فيها. أما المرشد الأعلى فقد كانت لديه مخاوف أعمق.

أصبح خامنئي زعيماً لإيران بعد عام واحد من انتهاء الحرب الإيرانية العراقية التي استمرت ثمانية أعوام وقتل فيها أكثر من 200 ألف إيراني، وقد كان أول إنجاز حققته الثورة الإسلامية في نظر خامنئي وجيله من الثوريين هو تحقيق الاستقرار والأمن للبلاد، مجسدين ما سمّي “حرب الدفاع المقدس” لإيران ضد غزو صدام حسين. لذا فإنَّ إدامة استقرار إيران وأمنها شأن أساسي في إرث خامنئي وتقدم الثورة الإسلامية.


رد انتقامي

لهذه الأسباب مجتمعة كان مفاجئاً أن تختار إيران مهاجمة الأراضي الإسرائيلية من أراضيها ليلة السبت بعد أن كان المسؤولون والمحللون يتوقعون رداً انتقامياً محسوباً. الأهم من ذلك هو أنَّ إيران قد أعطت إسرائيل وشركاءها وقتاً كافياً كي يستعدوا لمواجهة الهجوم. من ناحية أخرى انهمكت إيران بإجراء محادثات عبر القنوات الخلفية لإيضاح أنها لا تسعى لإشعال حرب. وبمجرد انتهاء الهجوم أصدرت البعثة الإيرانية لدى الأمم المتحدة بياناً أعلنت فيه أنَّ بالإمكان اعتبار الأمر منتهياً.

بيد أنَّ الطبيعة المباشرة للهجوم، التي جعلته مذهلاً ومخيفاً إلى هذا الحدّ، قد تملي حدوث رد إسرائيلي قوي، الأمر الذي يمكن أن يطلق زناد دورة جديدة وخطيرة من التصعيد. وفي تحذير للزعماء الإسرائيليين أشاد حسين سلامي، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، بالهجوم وقال إنه قد أسس “معادلة جديدة” لم يعد بوسع إسرائيل فيها أن تهاجم الشعب أو الممتلكات أو المصالح الإيرانية من دون أن تتلقى رداً مقابلاً ينطلق من إيران.

أما بيان الرئيس بايدن بشأن الهجوم الإيراني فقد أعاد التأكيد على “التزام أميركا الراسخ بأمن إسرائيل”، لكنه تضمن في الوقت نفسه عبارات تستحق التأمل. فقد أكد البيان بجلاء أنَّ إيران هاجمت “منشآت عسكرية”، مقللاً بذلك من مسألة تعرض حياة المدنيين الخطر. كذلك شدّد البيان على أنَّ الدفاع كان ناجحاً وأنَّ أعداء إسرائيل “لن يتمكنوا من تهديد أمنها بشكل مؤثر” على حد تعبيره، وبذا نفى الحجج التي تزعم أنَّ إسرائيل تواجه تهديداً وجودياً من قبل إيران. تعهد بايدن أيضاً بالعمل والتنسيق لإعداد “رد دبلوماسي” موحد على العدوان الإيراني، وبذلك استبعد فكرة الإقدام على رد عسكري فوري. ثم اختتم البيان بإيضاح أنَّ القوات الأميركية لم تتعرض للهجوم، وهذه إشارة مهمة وقاطعة للشعب الأميركي.

التزام أميركي

خلال المناظرة الثالثة في فترة الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام 2012 طرحت على كلا الرئيس “باراك أوباما” ومنافسه الحاكم “مت رومني” أسئلة تتعلق بإيران وما إذا كان لديهما الاستعداد للإعلان بأنَّ “أي هجوم على إسرائيل سيعد هجوماً على الولايات المتحدة.” لأنَّ هذا كان ذات يوم المفهوم الشائع لما يعنيه التزام أميركا الراسخ بأمن إسرائيل. أما اليوم فإنَّ الناخب الأميركي لم يعد يفهم ما هي مصالح الأمن القومي المعرضة للتهديد في الشرق الأوسط، كما بات يؤمن بشكل متزايد أنَّ الالتزامات الراسخة يجب أن تكون مصحوبة بالتزامات وشروط. الأمر الملحوظ أيضاً هو أنَّ معظم الناخبين الأميركيين اليوم لا يؤيدون الإجراءات العسكرية الإسرائيلية في غزة. 


نفور بايدن

عندما كانت القيادة الإيرانية تعمل بعناد على تفكيك عرى البنية الأمنية القائمة في الشرق الأوسط منذ زمن، ومن ضمنها انسحاب القوات 

الأميركية، حرصت أيضاً على تعرية حدود الضمانات الأمنية الأميركية. من أجل هذه الغاية تطوّر لدى القيادة المذكورة وعي حاد بمدى عمق النفور الذي يشعر به بايدن حيال الدخول في حرب 

جديدة، ذلك النفور الذي شهد عليه أحدث دليل والمتمثل برد فعله إزاء مقتل الجنود الأميركيين الثلاثة في الهجوم الذي تعرضت له إحدى القواعد العسكرية في سوريا خلال شهر كانون 

الثاني.

قد يفسر هذا لماذا اختارت إيران طريق الهجوم المباشر على إسرائيل، وإن كان موزوناً بدقّة. لأنَّ هذا الهجوم لم يستعد الردع الإيراني بشكل مباشر ولكنه كشف عن العزوف الأميركي الحرج. والأثر قد يكون نفسه في الحالتين.

يكشف بيان بايدن بوضوح عن أنَّ إسرائيل قادرة تماماً على الدفاع عن أراضيها، وأنها سوف تحظى بالدعم الأميركي، إذ ما فعلت ذلك. ولكن إذا ما تمادت إسرائيل في الأمر، حد التحول إلى الهجوم، فإنها قد ترغم على المضي في ذلك وحدها. هذه الحقيقة أكثر من غيرها قد ترغم إسرائيل على التخفيف من غلوائها حين تقدم على تحركها التالي. 


عن صحيفة الغارديان