عراقيون وغيلان أخرى لدنيا ميخائيل: من الكنايات الشعبويَّة إلى الرموز التاريخيَّة

ثقافة 2024/04/24
...

   




د. كريم شغيدل


    عالجت الشاعرة (دنيا ميخائيل) في قصيدتها (عراقيون وغيلان أخرى) موضوعة العنف، فقد أبرزت التنوع بصورة مباشرة من خلال توظيفها لبعض العلامات أو الكنايات الثقافية الدارجة، وهذه القصيدة بنيت على ثلاث دوائر سردية، جاءت الثالثة منها بمثابة الخاتمة، بينما مثلت الأولى بداية، ومثلت الثانية وسطاً، بحسب التقسيم الأرسطي، تشكلت الأولى من كنايات لا تخلو من تهكُّمٍ لوصف الشخصية العراقية في طور البداوة- إن صح التعبير- فتقول:

هم كائنات مخيفة.

لهم رؤوس داكنة ومترنِّحة.

يجولون في الصحراء

بأجساد ثيران وأسود،

عيونهم الواسعة تلمع بالسيوف.

يفتلون شواربهم إذا وعدوا

أو توعدوا

أو تغزلوا.



  إنَّ النص يبدأ بجملة تقريرية (هم كائنات مخيفة) ويتدرج في كناياته حتى يبلغ التهكُّم، والجملة الثانية قابلة للتأويل برغم تقريريتها الظاهرة (لهم رؤوس داكنة ومترنِّحة) فالرؤوس كناية شاملة عن العقل والذاكرة والوعي والخيال والشخصية.. إلخ.. ووصفها بالغامقة المائلة للسواد/ داكنة، كناية عما يثقلها من هم وتركات وأحزان عبر التاريخ، أما مترنِّحة فهي كناية قابلة للتأويل، فقد تكون مترنِّحة طرباً، أو ثمالة، أو عشقاً، أو إشراقاً، وقد تكون مترنِّحة ألماً وذبحاً وتغييباً عن الوعي، أو استلاباً، وبإسقاط الكناية المكانية (الصحراء) بوصفها علامة دالَّة على الجفاف والقسوة وتستحضر كل صفات البداوة من غِلظة وترحال وخوف وعطش وجوع وحروب وتحمّل وصبر وبدائية، وكلها علامات تناقض علامات المدينة واستقرارها ورغد العيش فيها وليونة الحياة بين أفيائها، وهي كناية واضحة عما أفضت إليه الحروب من تحويل الحياة إلى صحراء قاحلة، ثم تأتي الكناية الحسية المزدوجة (بأجساد ثيران وأسود) عن القوة والبأس والهيمنة والتسلّط، ثم يستحضر النص صورة صحراوية أخرى تحيلنا إلى بيت عنترة بن شداد الشهير(فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسِّم) بدلالة مقلوبة من المرأة إلى الرجل، ومن الثغر إلى العيون الواسعة كناية عن الحدة والترهيب، بعد ذلك يعرج النص على كناية اجتماعية (فتل الشوارب)، فإطلاق الشاربين والمبالغة بحجمهما كناية عامة عن الرجولة، والرجولة لا تعني الشجاعة فحسب وإنما تعني الأمانة والصدق والوفاء والفحولة مقابل الأنوثة، لذلك فإنَّ فتل الشوارب يأتي كناية عن الوفاء بالوعد، وعن الحزم في تنفيذ الوعيد، وعن الفحولة في التغزل بالمرأة تغزلاً ممزوجاً بالتفاخر والثقة بالنفس، وهذه كنايات متداولة اجتماعياً، ويتجسد التهكم في تناقضها، فقد تأتي بمثابة القسم والتعبير عن شرف الكلمة والشدة والقسوة والطغيان والاعتداد بالنفس، وتأتي للتقرب للمرأة وطلب ودها والإيحاء بالفحولة، وتستمر الدائرة السردية بطابعها الوصفي بخلوها من الحدث الحقيقي، وإسناد حركية النص إلى أحداث يمكن أن نطلق عليها افتراضية من خلال الأفعال المضارعة الدالة على الديناميكية: (يجولون، تلمع، يفتلون) وتتعمق سمة الافتراضية في الأفعال الماضية التي لا تخرج كثيراً عن وصفية السرد: (وعدوا، توعدوا، تغزلوا) على أن صيغة الجمع في الأفعال منحت النص حيوية كسرت سكونية الوصف، ويواصل النص تدفقه الوصفي:

من أنوفهم الهائلة

يخرج دخان كثير،

يعلو إلى السماء.

يهزون الأرض بقوة ينتبه لها الموتى

يعيشون في ظلمة،

بلا ماء ولا كهرباء.

    الجمل الثلاث الأولى رسمت مشهداً واقعياً، إذا ما تلقيناه كما هو في ظاهره، لكن ما دلالة الأنف الهائل؟ هل هو وصف حقيقي أم مجازي؟ وما دلالة خروج الدخان الكثير منه؟ هل هو دخان السجائر كناية عن القهر والحزن واليأس؟ أم هي كناية عن دخان الحروب؟ إن وصف الأنوف في تقديري فيه إيحاء بالاختناق، فالأنف يتسع بايلوجياً في الأجواء الساخنة الرطبة التي يصعب فيها التنفس، كما هي الحال عند الأفارقة، وخروج الدخان الكثير كناية عن الحرائق الداخلية، ومع التغييب القصدي للشهيق، يكون التنفس أحادي، زفير عبارة عن دخان أو نفث حسرات ندم وحرقة، وهذا التغييب المتعمد أو إخفاء فعل الشهيق هو الذي أتاح لنا مشروعية التأويل، ووصول الدخان إلى السماء هو دلالة واضحة على عتمة الأجواء وتلبدها، ثم يعود النص لتكريس دلالة القوة بصورة شعرية مبنية على مفارقة دلالية (يهزون الأرض بقوة ينتبه لها الموتى) وربما هي استعارة بعيدة نوعاً ما للحرب الطائفية، فالأحياء يهزون الأرض في صراعهم نيابة عن الموتى الذين تركوا هذا الإرث من التطرف، وكأنَّ النص أراد القول بأنهم يتحركون في زاوية مظلمة من التاريخ، يستحضرون بها ثقافة الفرقة والصراعات الدموية التي راح ضحيتها الآلاف، وكأنهم يريدون أن ينبهوا رموزهم أو أسلافهم ويثأرون لهم، وينتقل النص من ظلام البيئة إلى بؤس المعاش ثم إلى ما يتداوله عوام الطوائف من علامات ثقافية تميز كل مكون باسمه الصريح، وهذه الكنايات مستمدة من الذاكرة الشعبية:

لهم عادات غريبة:

السنّي يردّد بأن الشيعي له ذيل.

الشيعي يحملُ مفتاحَ الجنة في جيبه تحسباً للموت.

الكردي يذهب إلى الجبل حين يقاتل

وحين يرقص “دبكة”.

الكلداني يستشيرُ النجومَ في كل القرارات.

الآشوري يضع ريشة على رأسه

ليثبت أنه صرع النسرَ.

الأرمني يرمي نفسه في النهر حين ينزعج.

المندائي يحتفل بالأعياد

بأن يبقى ثلاثة أيام في البيت.

اليزيدي يحترم الشيطان

ويقدّسُ الخس.

التركماني ينتظر دائماً عودة السلطان.

أولئك العراقيون وباقي الغيلان

    هكذا تنتهي الدائرة السردية بطابعها الوصفي العلامتي، وأقصد العلماتية الثقافية الشعبوية، الأمر الذي يجسد الاختلافات الثقافية من خلال عادات شعبية تمارس من قبل العامة، وقد اختارت الشاعرة علامات بعينها، تنطوي على مضامين خارج المألوف، على الأغلب هي لم تشكل أركاناً رسمية لثقافة هذا المكون أو ذاك، وليست جزءاً من خطابه الديني أو القومي، بعضها عادات يمكن تسميتها بالعقائدية، ثم تبدأ الحركة الثالثة الختامية:

(كلما تغيب الشمس

وتهدأ أصوات المدافع)

يُخرجون قيثاراتِهم من الصناديق

يعزفون لمفقوديهم 

جميعاً حتى الصباح.

    يرسم النص صورة لما بعد الحرب، ويختار وقت غروب الشمس ليجسد أجواء الحزن والكآبة التي تهيمن على النفس البشرية في تلك اللحظة، ويعيد الجميع بكل متناقضاتهم إلى التاريخ الرافديني، إلى عراقيتهم الأسطورية والتاريخية، التي توحد ولاءهم للأرض، بدلالة القيثارة التي تنسب لحضارتي أور وسومر، وكان يعزف بها عند تقديم القرابين، ونبرات النعي عند العراقيين متوارثة ومعروفة بشجنها العالي، ربما امتداداً لرثاء شعب الرافدين لديموزي، بعد معاقبته من حبيبته الآلهة عشتروت.