{الفولكلور} مرجعاً إبداعيّاً

منصة 2024/04/24
...

 محمد صابر عبيد

ترسّخ مصطلح {الفولكلور} في الثقافة العربيّة على مدى عقود طويلة ابتداءً من دخوله إلى ميدان هذه الثقافة قادماً من ثقافة الآخر، وحافظ على تسميته الأجنبيّة بعد سلسة سجالات حول إشكاليّة ترجمته؛ ومحاولات البحث عن مقابِل عربيّ مناسب له علميّاً ومكافئ له دلاليّاً يحتوي على معناه كاملاً كما هو في أصله الأجنبيّ، لكنّ الأمر انتهى إلى قبوله كما هو في مرجعيّـته وبلفظه الأجنبيّ القارّ؛ على نحو لا يثير خلافاً واسعاً حول الدلالة والمعنى والقيمة، ولا ينتج التباسات مفهوميّة قد لا تصل إلى حل مرض للأطراف جميعاً في نهاية المطاف.

اكتسب المفهوم بوساطة هذا الاستخدام الواسع حضوراً مناسباً وقبولاً معقولاً؛ ودخل في أروقة المعجم العربيّ الخاص بتعريب الكلمات الأجنبيّة على وفق الحاجة والضرورة، بلا مشاكل ولا معاناة ولا مزيد من السجالات يمكن أن تربك المعنى المطلوب، وهذا من كَرَمِ اللغة العربيّة في الاحتواء والاستقبال والاندماج والقبول الذي يحقّق فعاليّة إجرائية سليمة على أكثر من مستوى لغويّ ومعجميّ وأدبيّ وثقافيّ، بما ينجز على هذا الصعيد أعلى درجة من الفهم والتمثّل والاستيعاب لدى المشتغلين في الحقول الإنسانيّة؛ التي يعمل فيها هذا المصطلح بحريّة وسلاسة إجرائيّة ناجحة.

حرّضني على هذه المقاربة كتاب الباحث الدؤوب إدمون لاسو الموسوم "حول مصطلح الفولكلور نقاشات وسجالات"، وهو كتاب مهم حاول فيه الباحث جمع ما تيسّر له من مقالات وشذرات وأفكار وملاحظات لها علاقة بمفهوم "الفولكلور"، ولا سيّما ما جرت من حوارات ساخنة على صفحات مجلّة "التراث الشعبيّ" في النصف الثاني من سبعينيّات القرن الماضي، واشترك فيها كبار المشتغلين في هذا الحقل من باحثين ونقّاد وأكاديميين ولغويين وأدباء، قدّم كلّ منهم رأياً ومقاربة ورؤية ومقترحاً احتشدت داخل هذا الكتاب على نحو بحثيّ مفيد جداً للدارسين والباحثين في هذا المجال.

يكتسب كتاب إدمون لاسو من هنا أهميّته ومشروعيّته بما حمل من آراء خاصّة له في هذا الموضوع؛ وما عرضه من أفكار وحوارات ونقاشات وسجالات معمّقة وأصيلة وعارِفة، نهض بها ثلّة من كبار الباحثين في مجال التراث الشعبيّ وقضاياه وموضوعاته وتجلّياته على مستوى العراق، أنتجت تراثاً مهمّاً أرّخ لهذه القضية المهمّة وحفل بآراء متنوّعة ومختلفة في أكثر من سياق، كان لها أكبر الأثر في تقديم رؤية مفهوميّة واصطلاحيّة حول موضوع الفولكلور، ولا شكّ في أنّ هذا الكتاب يشكّل إضافة أكيدة ويجمع كوكبة من أبرز الآراء وأهمّها حول المفهوم، وما ينتجه ذلك من حضور معلوماتي يسهم في إغناء فضاءات الموروث الشعبيّ وشواغله على الأصعدة كافّة.

ما يهمّنا في هذا السياق هو الكيفيّة التي يمكن أن نوظّف فيها الفولكلور في ميدان الإبداع الأدبيّ، بوصفه مصدراً أصيلاً ومرجعاً أساسيّاً بوسعه أن يرفد النصوص الأدبيّة بمختلف أجناسها بكثير من الثراء الجماليّ الخلّاق، وبما أنّه على صعيد التشكّل شديد التنوّع والتعدّد والانتشار والتحوّل؛ فإنّ الإفادة منها إبداعيّاً تكون في أعلى حالاتها على مستوى التمثّل والتمثيل والتوظيف والتناص، ففيه زخم جماليّ هائل لا ينضب ينهل منه النصّ الأدبيّ ويُدخِله في نسيجه البنائيّ بآليّات مختلفة، يحتاج فيها إلى إدراك مرجعيّاتها وأصولها ومكوّناتها وحكاياتها بدقّة ومعرفة ووعي؛ تؤهّله لنقله من حاضنته الفولكلوريّة إلى أفق التشكيل الإبداعيّ للنص الأدبيّ.

أفاد أغلب شعراء الحداثة العربيّة من مرجعيّة الفولكلور ووظّفوا الأساطير التراثيّة والمحكيات الشعبيّة والأمثال المتداوَلة وموروثات شعبيّة كثيرة ومتنوّعة أخرى، مثلما أفاد منها قصّاصون وروائيون ومسرحيون كثر أدركوا قيمة هذه الإفادة، وراحوا يتسابقون في أخذها واستعارة قيم تعبيريّة وتشكيليّة أصيلة فيها لدعم مقولاتهم الإبداعيّة وتكريس أطروحاتهم الفكريّة والثقافيّة، على النحو الذي أنتج أساليب جديدة في العمل الأدبيّ -شعراً وسرداً- حوّل موضوعات الفولكلور إلى قيمة عليا وكنز مرجعيّ، لا يمكن الاستغناء عنه أو إهماله أو تغييبه، ولو استرجعنا على سبيل المثال التجربة الشعريّة لروّاد الحداثة العربية وعلى رأسهم الشاعر بدر شاكر السيّاب؛ سنجد أنّه أفاد بشعريّة عالية من معظم أشكال الفولكلور ووظّفها بصورة عميقة وأصيلة، أنتجت جماليّات خاصّة شكّلت خصوصيّة فنيّة نوعيّة من خصوصيّات تجربة السيّاب وعكست ما تنطوي عليه هذه التجربة من طاقة تعبيريّة هائلة.

ولم تكن قضايا توظيف الفولكلور لدى الروائيين والقصاصين والمسرحيين بأقلّ ممّا لدى الشعراء في الأدب العراقيّ الحديث على نحو خاص والأدب العربيّ عموماً، فقد شرع كثير منهم نحو استلهام منطلقات وإشارات وعلامات وقضايا جوهريّة حول فضاء الفولكلور؛ واشتغلت عليها في إطار بناء نصوص إبداعيّة ضاعفت من طراوتها الخلّاقة وعمّقت مقولاتها وطوّرت تشكيلاتها، ولعلّ دراسات نقديّة كثيرة جداً أشارت إلى تقانات وآليّات هذا التوظيف والأخذ والتناص؛ في تصوير قدرة الأجناس الأدبيّة وأنواعها على استيعاب تمثّلات الفولكلور داخل نصوصها، والإفادة من عناصر ثقافيّة وجماليّة وفنيّة لا حصر لها في ضخّ النصوص الأدبيّة بإمكانات إبداعيّة ثرّة، وإضفاء حساسيّة فنيّة شديدة الإثارة تعمّق فعاليّة الطرافة والجدّة داخل الأفق الجماليّ العام لحركة اللغة والصورة في فضاء التشكيل النصيّ، وتفتح مجالات التعبير على مساحات جديدة بوسعها أن تضيف وتعمّق عناصر التشكيل؛ وتضاعف من قوّة أدائها على مستوى البناء والتدليل وجماليّات الإشراق النصيّ بأشكالها المختلفة.