القابضون على مقود الصراع وإدارته

منصة 2024/04/24
...

 حازم رعد 

  من الملاحظ {عند الأطراف التي تستفيد من زخم الصراع} عدم جدوى كل دعوات الحوار بين المتصارعين {على موضوعات مختلفة} سواء كانوا أطراف أو موضوعات أو أوجه الصراع تلك (دينية، أو ايديولوجية، أو سياسية) لأن كل تلك الجهات تقف ورائها أغراض سياسية ومصلحية، وتترتب على أثرها مكاسب من قبيل النفوذ والحضوة بالتملك {وكلما دخلت على الخط غايات وأهداف كلما كان الصراع أعمق والبحث عن استعاره واشتداده أكبر}.

 اذن ليس من المصلحة "بحسب رأي الفاعلين وراء تلك الصراعات"، انهاء الصراع وإقامة الحوار البناء والدخول في تفاوض ايجابي لإزالة اللبس والفوارق. 

والاتفاق على مشتركات تقريبية، إذ لو زال سبب الصراع أو نزع فتيل الأزمات أو توضحت لعامة الناس أن أسباب الصراع كانت لمصالح منها سياسية، فإن النفوذ سيقل والسيطرة على العقول سيخف وتتضاءل نسبة المكتسبات. وهذا أمر واضح جلي لا يحتاج غير تدقيق المسائل، التي تدور عليها الاختلافات والصراعات "إذ من خلال اجراء البحث العقلي والعلمي الصارم، والتنقيب في تاريخ كل مسألة خلافية والتفتيش بظروفها الموضوعية ستوضح بأنها ليست كما يسوق لعامة الناس أو أنها ليست مسألة ذات جدوى من الناحية العملية في الحاضر لا أقل"، وهذا أمر لا يروق الزعامات والسلطة والفاعلين المهمين وراء  الصراع الذين يقفون في مقدمة أو خلف مسرح الأحداث. 

أنا لا أروح القول إن الأمر بسهولة كتابة هذه الكلمات، لأن تاريخ من الأحداث والمواقف، وركام من الضحايا يبين حجم الاشتغال الكبير المعمول في سبيل ادامة الصراع واستمرار حركته وتوظيفه أيديولوجيا ليدر مكاسب من نوع ما على "الحراس والفاعلين" الذين يرقبون كل حركة ويحسبون حساب كل خطوة تتحرك في هذا الاتجاه "ديمومة الصراع وتوجيه حركته وانتظار عودة مكاسبه عليهم. لا أقل من ناحية الابقاء عليهم في مركز صدارة المواقف وما يتصل بذلك من غايات أخرى. 

التاريخ البشري بكل تفصيلاته سواء الدينية أو السياسية ينبئنا بالكثير من الأمثلة التي كانت شاهدة على إرادة طرف أو أطراف عدة في ابقاء الصراعات مستعرة بينهم. إذ لا يمكن التفكير ولو للحظة بالتنازل عن المكاسب المتأتية من الصراعات من قبيل مثلاً "تجار السلاح" الذين من مصلحتهم نشوب الحروب واستمرارها، لأن في ذلك يصب في مصلحتهم اقتصادياً من خلال بيع الأسلحة والأعتدة والذخائر، وهذا ما يعود عليهم بالمكاسب الكبيرة. 

فكيف لتجار السلاح مثلا التفكير مليئاً بعقلانية والشعور بمعاناة من هم على تماس مع الحروب والعنف مباشرة؟ كيد مثل هؤلاء "الوحوش" لا يفكرون سوى بمصالحهم الجهوية والشخصية. هذا نموذج على الفكرة التي وددت طرحها وإفهامها للآخرين، فالأمر أعقد وأصعب، بخاصة إذا اقتربنا من المناطق التي يحرم الاقتراب منها، بحسب وجهات نظر "القابعين خلف مسرح الأحداث والقابضين على مقود الصراع". فمثلاً أن من مصلحة جملة من الزعامات الدينية والمذهبية بقاء الصراعات مستعرة بين الطوائف والمذاهب، لأن ذلك يجعل المرؤوسين دائماً بحاجة إلى خطاب ديني مغذي للانفس يدفع الى الصراع ويحض على الدخول فيه. ومعنى ذلك الحاجة إلى الفاعلين داخل المؤسسة الدينية الذين من مصلحتهم الابقاء على نفوذهم وتزعمهم استمرار الصراع، ولذا يلجأون لتغذية الصراع فكرياً وتأصيلياً وما إلى ذلك، وبخاصة إذا كان الصراع الطائفي أو الديني مرتبطا بالفعل السياسي والحضور الفاعل داخل أروقة السلطة، فأن الصراع اكيداً هنا سيكون أكبر وأشد وارتداداته قوية، وتختلف عما إذا كان الصراع غير مرتبط بالسياسة. إذن فكيف لهؤلاء التفكير بانهاء الصراع واللجوء إلى الحوار كبديل عنه؟ ومثال آخر كذلك أنه كان من مصلحة جستنيان الإمبراطور الروماني الذي حكم عام 572، أن يشن حرباً على الفلسفة ويضطهد الفلاسفة، لأنه وجد في ذلك تدعيم لسلطته المدعومة أصلاً من قبل رجال دين الكنيسة الذين هم ايضاً وجدوا في هذا الإمبراطور الأداة الملائمة لضرب عدوهم المشترك وهو "الفلسفة" ثم بعد ذلك وجد من مصلحته الانقضاض على بعض أطراف الكنيسة ممن اسماهم "بالمشاكسين الارثذوكسيين" الذين أحس بخطرهم عليه، فعمد الى القضاء عليهم. 

أنظر كيف اتحدت المصالح وتوافقت الغايات من أطراف عدة على شن حرب على الاكاديميات والحواضر الفلسفية التي كانت سائدة في اليونان والاسكندرية والمدن المتاخمة لها، والتي كانت تداعيات ذلك الصراع وإعلان الحرب أن راح ضحيته اغلاق الاكاديميات والمدارس واقتل الفلاسفة وتشريدهم فقط، لأن الفلسفة شكلت هاجساً مخيفاً لرجال الدين والسلطة انذاك، والأمر نراه ينعكس مع رجال الدولة العباسية التي وجدت من المصلحة تقريب الفلاسفة والاهتمام بالفلسفة لتدعيم دولتهم في مقابل أطراف كانوا يعتقدون بأنهم الخطر الحقيقي على الدولة، فقربوا لبلاط السلطة مجاميع من المنظرين والمتكلمين والفلاسفة وأسسوا دوراً ومعاهد للتفلسف "ونحن لا نريد أن نؤثم الغايات بشكل تام، أو نقول إن ظهور حركة التفلسف لم يكن لها الاثر الايجابي على الحضارة الإسلامية.

في تلك الحقبة، بل العكس كان أثرها مهماً ونتائجها أيضاً كبيرة.. ولكن كان إلى جانب ذلك وجود هدف غير ظاهر للعامة ولا يمكن ملاحظته إلا للعقلاء والثاقبي النظر أو بعد انفضاحه، وهو أن يقفوا موقف الضد من تيارات وشخصيات دينية مناوئة لهم ولسلطانهم وتوسع نفوذهم فنجم عن ذلك ما كانوا يصبون إليه من أهداف وغايات. ما أريد التأكيد عليه هو تعميق الملاحظة في أسباب الصراع والظروف الموضوعية المحيطة به، والأهداف المتوخاه منه واستبيان حال الأطراف المستفيدة منه، حتى نفهم طريقة تفكير المتصارعين ومسار حركة الصراع، وكيف أنه ليس بالإمكان، أو المنال وقف الصراع ما دامت الأهداف قائمة والمصالحة متوقفة عليه وعلى استمراره؟ 

مع ملاحظة مهمة أيضاً أن هذه الأطراف المستفيدة من الصراع مقسمة رتبياً وبدرجات متفاوتة كل طرف له نوع من المكاسب، ويسعى إلى درجة من حجم الصراع ويقع في مرتبة من مراتب الانتفاع منه، وبحسب الارباح والعائدات يكون تدخله قوياً أو ضعيفاً أو متوسطا.