التفكيرُ عراقيَّاً - 2

آراء 2024/04/29
...

ابراهيم العبادي

ما يثير التفكير ويدفع إلى القراءة المعمقة، هو البحث عن الدوافع النفسية والسياسية، التي تجعل هذا الصنف من السياسيين واتباعهم ومن غير اتباعهم ايضا، يعمدون إلى احراج الحكومة داخليا وخارجيا، فيما تسعى الحكومة جاهدة لتسويق صورة ايجابية علّها تقنع المستثمرين والدول الاخرى للدخول في شراكات ومشاريع تنموية يحتاجها العراق لنموه الاقتصادي، وسعيه لتلبية الحاجات المتزايدة لسكانه.
يثير بعض الباحثين والمثقفين سؤالا اساسيا، عن سبب انهماك شطر كبير من العراقيين بقضايا لاتبدو جوهرية واساسية، كقضية بناء الاقتصاد و(تقوية) الدولة، ويستمرون في اثارة زوابع اعلامية ونفسية وامنية تعطل مسيرة البناء وتقوض جهود الحكومة..
نعلم ان العراق يشهد هدوءا حذرا، رغم حوادث متفرقة تحصل بين أونة وأخرى، وصورة الامن الحذر هذه تبدو فرصة مهمة للحكومة لتوظيفها في تطبيق برنامجها الحكومي، لكن المضي قدما في مشروع البناء والاصلاح الاقتصادي يحتاج إلى امن مستدام وبيئة جاذبة ومشجعة للمستثمرين ورجال الاعمال والشركات الكبرى. غير أن هذه الصنف المعرقل أو المعطل لديه أولويات غير أولويات الحكومة الاقتصادية والاستثمارية، فأولوياته السياسية أو الخدمية تدفعه إلى اعادة تحريك الشارع مجددا، واستعادة حالة سابقة عرف بها العراق وهي صورة العراق المضطرب، حيث قسم من الجمهور يناكف الحكومة ويشتت اهتمامها وتركيزها، ويسعى بعض السياسيين جاهدا للاستثمار في هذه الوضع بقصد مشاغلة الحكومة ايضا وتمرير مشروعه.
ما يثير التفكير ويدفع إلى القراءة المعمقة، هو البحث عن الدوافع النفسية والسياسية، التي تجعل هذا الصنف من السياسيين واتباعهم ومن غير اتباعهم ايضا، يعمدون إلى احراج الحكومة داخليا وخارجيا، فيما تسعى الحكومة جاهدة لتسويق صورة ايجابية علّها تقنع المستثمرين والدول الاخرى للدخول في شراكات ومشاريع تنموية يحتاجها العراق لنموه الاقتصادي، وسعيه لتلبية الحاجات المتزايدة لسكانه.
اضعاف الحكومة وتقويض سلطاتها والتشويش على خططها وجهودها، ليس في مصلحة المجتمع، اذ ثمة ضرورة للدولة القوية لتحقيق التنمية السياسية والاقتصادية والثقافية، والدولة في سياقها الشرق أوسطي على الاقل، هي (الضامنة لوحدة المجتمع، والماسكة لتنظيمه الداخلي، وهي التي تقسم العمل فيه، وهي التي توزع السلطة بين افراده وفئاته، وهي المعبرة عن نفسه وماهيته، وهي الحامية لكيانه الذاتي، من خطر العدوان عليه، وهي التي تردع العدوان الداخلي بين جماعاته، . عبدالاله بلقزيز، 2008).
يرسم الباحث الايراني الراحل داود فيرحي (1964 - 2020 اربع معادلات لعلاقة الدولة والمجتمع بشكل عام.
المعادلة الاولى: دولة قوية ومجتمع ضعيف، وهذه المعادلة تقود إلى استبداد السلطة وهيمنتها وتحكمها بالمجتمع. المعادلة الثانية: دولة ضعيفة ومجتمع قوي. وهنا يبدأ اضمحلال السلطات وتخليق اجنة الثورة والاضطراب والتمرد.
المعادلة الثالثة: دولة ضعيفة ومجتمع ضعيف. حيث تسود الفوضوية والهرج والمرج بالتعبير الاسلامي القديم.
المعادلة الرابعة: دولة قوية ومجتمع قوي.وفي هذه الحالة تنمو وتقوى الدولة ويتطور المجتمع ويسود الدعم المتبادل، فالدولة تكون هنا ممثِلة لارادة المجتمع، والمجتمع يرى الدولة ساهرة على مصالحه.
لقد جرب العراقيون المعادلات الاربع في مراحل مختلفة من عمر الدولة وعلاقتها بالمجتمع، وكانت المفارقة أن احتفظ المجتمع بنموذجين مخيفين في ذاكرته القريبة لحالة الدولة، فيوم قويت الدولة ممثلة بسلطاتها وأذرعها وادواتها (الجيش، القوى الامنية، الاقتصاد والمال، سلطة الاعلام والمراقبة ) سُحق المجتمع وفقد كرامته وحريته وخسر ارادته وصار لقمة في افواه الحاكمين، ويوم انهارت الدولة وانكسرت شوكتها وقوتها وضاعت هيبتها، صار هم المجتمع عودة الدولة لتضمن الامن وتقوم بالادارة وتقدم الخدمات وتمنع النزاعات وتساوي بين المواطنين (نريد وطن = نريد دولة ).
وحينما اصرت قوى وجماعات واحزاب على ابتلاع الدولة وتغانُمِها وتحاصُصِها، انكشفت هذه القوى سريعا، وفقدت ثقة الجمهور وماعادت تحظى باحترام كبير في الشارع السياسي، الامر الذي ولد حالة من التيه والارتباك وتَشخصُنْ الصراع السياسي، واشتداد الانقسام المجتمعي على اسس طائفية وقومية ومناطقية وحزبية.
كانت الدولة في اشد حالاتها ضعفا، وكان المجتمع هو الاخر يرتع في حالة ضعف شديد، فقد فيها قدرته على انتاج سلطات تمثله، يرضى عنها ويساندها لتوفر له ماكان ينتظره منها.
ثمة خصوصية امتاز فيها العراق المعاصر وربما يشترك مع ايران في ذلك، وهي وجود المرجعية الدينية، فقد كان لها اهمية ودور كبيران في لحظة انهيار الدولة وضعف المجتمع، فسرعان ماساعدت المرجعية على اعادة التماسك المجتمعي وومنعت الانحدار نحو الحرب الاهلية، وساهمت تدريجيا في استعادة الدولة لقوتها.
كان المرجع الاعلى في النجف يصر على تقوية الدولة، ويدعو إلى بناء موسساتها بالسرعة الممكنة، ويحث على جعل العلاقة بين المجتمع والدولة علاقة توازن وتعاون وتكامل والعمل الجاد لبلوغ اهداف مشتركة، فلا ينفصل المجتمع عن دولته، ولا تستبد الدولة بالهيمنة على  المجتمع.
الدولة القوية احتياج عراقي يومي، لتتوازى قدراتها وسلطاتها مع قدرات مجتمعية تزداد قوة، مستفيدة من ضعف الدولة وتراجع هيبتها وعدم تمكنها من احتكار العنف الشرعي، فصارت بعض قوى المجتمع تنازع الدولة سلطانها وتتطاول على السياسات المتخذة والنظام العام. من هنا اشتدت الحاجة إلى اعادة التفكير بالدولةعراقيا، والتذكير المستمر بان الخشية من الاستبداد ومصادرة الحريات والانفراد بالقرارات، لاتبرر ايجاد ثنائية موازية للدولة وسلطاتها ووظائفها، تحت اي ذريعة ومسمى، لان ذلك سيكون بداية الطريق إلى الفوضى وضياع اهداف المجتمع وسيادة الهرج والمرج ، وخسارة الناس لمعاشهم وامنهم ومستقبلهم، قديما قال حكماء المسلمين (ان الله ليزع بالسلطان ما لايزع بالقرآن).