قرية {الهويدر}.. حوريَّة نهر ديالى

منصة 2024/05/02
...

 يوسف المحمداوي

 تصوير :نهاد العزاوي

يقول الشاعر الكبير محمود درويش {جمال الطبيعة يهذب الطبائع، ما عدا طبائع من لم يكن جزءاً منه} وقد يذهب البعض بعيدا في ما قاله درويش، لكن الحقيقة جلية ولا تحتاج الى منفذ للدخول سوى القول إن الإنسان الطبيعي وليس غيره من يهزه جمال الأشياء ويتعاشق معها، لانه من غير المعقول أن يشعر المجرم بالجمال وهو متعلق تماما بالقبح وسلوكياته.

رحيل العاني وجمال الطبيعة

في سفرتنا الاخيرة الى بعقوبة الجمال بمعيّة الاديب والقلم الذي لايتكرر الراحل الكبير حسن العاني والفنان المبدع خضير الحميري، وزميل العمل وعدسة الفوتوغراف نهاد العزاوي بدعوة من الصديق الغالي الاعلامي احمد نجم وعائلته الكريمة، متمثلة بأشقائه الذين اغرقونا بكرم ضيافتهم الكبيرة والكثيرة، وللأمانة أقولها ما دفعني إلى بدء الريبورتاج بقول درويش، لأن الكتابة بعد الرحيل المفجع للمعلم والصديق الكبير العاني وفقدانه الموجع على قلوب من عرفوه وقساوة الفراق ووحشته، لم يمنعني من التغزل بالجمال الرباني، الذي ادهشنا في تلك السفرة التي تمنيتها ان تطول لأيام وليس لساعات عشناها، كالثواني السريعة التي قضيناها تحت سماء قرية الهويدر الساحرة في ربوع بعقوبة السحر والجمال.


(الهويدر) التاريخ والتسمية

هي قرية تقع شمال شرق مدينة بعقوبة التابعة اداريا لمحافظة ديالى، وهي شبه جزيرة لكون الفاصل عنها، وعن قرية خرنابات التي تقع في شمالها هو نهر ديالى، ويحدها من الشرق نهرخريسان، ونتيجة لتغيير مسار نهر ديالى  بسبب ارضه الطينية أصبح يحيطها من جهاتها الثلاث، وليس لها غير مدخل واحد تطوّقه من الجانبين وتزيده جمالا بساتين النخيل، ومساحة هذه الساحرة هي 1200 دونم، توزعت بين البساتين والدور السكنية ولكن الغلبة للبساتين بنسبة 80 بالمئة، وهذا ما يزيدها بهاءً ووقاراً 

جماليا.

كانت تسمى في السابق بحسب قول سكنتها "الشريعة البيضاء"، بحسب وثيقة عثمانية مؤرخة في العام 1551 ميلادي، وبالنسبة لتسميتها الحالية" الهويدر" اختلفت بين معنيين الاول فارسي ومعناه (هوا دار) أي الهواء النقي، والثاني تركي ومعناه (هواء أيدر) ويعني الهواء العذب، في ما يذهب بنا العلامة الكبير مصطفى جواد الى مكتبة جامع السوربون في باريس، ومن خلال وثيقة حصل عليها، ان تسميتها تعود الى أول من سكنها وهو شخص يسمى (حويدر) تصغيرا لاسم حيدر، وان اختلفت المسميات وجدناها من مدخلها وهي محاطة بدونمات من الفتنة التي تفرضها الطبيعة ببساتين حمضياتها المتنوعة واشجار رمانها وتمور نخيلها، لم يتخلَ نهر ديالى العظيم عن طفلته الجميلة التي ولدت نتيجة تحولاته الجمالية، وكأنه مهدها الذي يحافظ على ياقوتته الحسناء من خلال احاطتها من جهاتها الثلاث.


الموسوعة تنتظرنا في مقهى

كان في انتظارنا بأحد مقاهيها موسوعة الهويدر والحافظ لارشيفها الدكتور عبد الكريم جعفر احمد الكشفي مدير تربية محافظة ديالى السابق، وعضو اتحاد ادباء وكتاب ديالى، ليستقبلنا وكأنه احد بساتينها المثمرة بالعطاء ارشيفيا لتاريخ مدينته، ومن روائع ما وجدناه هناك انه يعرفنا جميعا دون ان نلتقيه سابقا، فهو يعرف الراحل العاني بجميع مفرداته الابداعية في السرد الادبي ومقالاته الفريدة في طروحاتها، ومتابع نهم لرسومات الحميري الكاريكاتيرية الرائعة، وللعزاوي ولقطاته الفوتغرافية المدهشة، وكأن الرجل لا يجلس في مقهى بإحدى قرى بعقوبة، بل مقيم بمكتبة في شارع المتنبي لمتابعته الدقيقة لما يعيشه الوسط الادبي والثقافي والصحفي في العراق، لا أجد وقلبي قبل العيون يتلفت بين أزقتها وبنايتها وبساتينها، وانا استمع لذكريات الكشفي عن الهويدر وتاريخها، غير أن أقول إنها ريف حقيقي ارتدى بزهو جلباب الحضارة والمدنية، ولا أغالي إن قلت اني سمعت هناك المطرب الريفي مسعود العمارتلي يغني مع كاظم الساهر " زيديني عشقا زيدني"، متخليا عن اغنيته " سوده شلهاني يايمه سوده سوده شلهاني"، أو سعد الحديثي دكتور اغاني البادية تجاوز اغنيته المشهورة" راحت للجت وما جت... ونيران گلبي وجت" وسمعته يطربني برائعة كوكب الشرق"، مخطرتش على بالك يوم تسأل عني.. يمسهرني"، نعم هذا هو العراق بمدنه، بقراه ثريات يتتباهى بها سماء السحر والجمال والفتنة، أين ما ذهبت تجد لوحات مدهشة ومثيرة رسمتها ريشة الخالق على هذه الارض الغنية في كل شيء.


الكشفي وعشق الهويدر

هذه القامة التربوية وأقصد الكشفي لا يمكن أن أصفه غير بستان مثمر من المعلومات الدقيقة لمهد ولادته وصباه، ليبدأ الحديث عن المقهى الذي نجلس فيه يقول "إنه أول مقهى بُنِيَ في الهويدر عام 1920 ويعود لصاحبه عبيد العبيدي، وكان فيه مكان خاص بالحكواتي أو مايسمى سابقا باليصخون"، واثناء تجوالنا في "الهويدر" لؤلؤة نهر ديالى كان الكشفي الحاسوب الحافظ لكل شبر من معشوقته، مبينا لنا أن خان النص اسست به أول مدرسة في القرية عام 1919، وخرجت العديد من اعلام هذه المدينة ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الدكتور طلعت الشيباني هو أول وزير للتخطيط في الجمهورية العراقية بعد الإعلان عنها، وتولى أيضا مهام وزارة النفط بالوكالة عام 1960.

اعتقل في 8 شباط 1963 وأودع التوقيف لمدة تسعة أشهر واطلق سراحه، وتوفي عام 1992، والاستاذ عبد الحميد كاظم حميد السامرائي هو سياسي عراقي شغل منصب وزير المعارف أكثر من مرة خلال العهد الملكي في العراق، وابنه الأستاذ الدكتور مازن عبد الحميد كاظم كان عميد سابق لكلية الهندسة، وأحد علماء العراق في الهندسة الكهربائية، والمربي مصطفى الخابوري وكامل أنور وأكرم الشيباني، الذي كان من شعرائها البارزين ومن أشهر شعرائها أيضا الشاعر عبود عبد الكريم والمرحوم احمد حسين البياتي وكاظم الأعور، والعديد من الاسماء البارزة التي لايمكن لمقالتنا أن تستوعب جميع تلك المسميات المهمة في تاريخ الهويدر.

وبين لنا أن أول مدرسة ابتدائية للبنات في القرية أسست عام 1927 وأول ثانوية للبنين فيها افتتحت عام 1963.


أبو سرحان و" گنطرة" الماضي

أثناء تجوالنا في الهويدر كان يرافقنا احد وجهائها وما يدهش في وجوده هو زيه العربي القديم، وما اثارنا دهشة هو تحزمه بخنجر عربي قديم فضلا عن شواربه المفتولة بشكل يحيلك للشقاوات التركية في المسلسلات، عرفنا منه انه الشيخ مزهر ذياب العبيدي أحد وجهاء عشيرة العبيد ويلقب بابي سرحان، موضحا بأن الملابس التي يرتديها هي لجده من والده واعتزازا منه بجده استمر بارتداء ذلك الزي الغريب، اما الخنجر الذي يحمله يقول أبو سرحان انه مصنوع من الحديد وقرن البقرة مؤكدا ان جميع ابناء القرية في قديم الزمان كانوا يحملون هذا النوع من تلك الخناجر وكأنها مكمل للباسهم التقليدي، واثناء حديث ابو سرحان لا اعرف لماذا تذكرت الشاعر ابو سرحان واغنيته ( الگنطرة)، التي لحنها الراحل كوكب حمزة وغناها سعدون جابر" حدر التراچي برد ... والگنطرة بعيده.... وأمشي وأگول اوصلت ... والگنطرة بعيده" ولا ادري قد يكون من دفعني الى تذكر ذلك هو بحث هذا الوجيه العبيدي عن " گنطره" تعيده الى الماضي، الذي يراه جميل ويصر على ارتداء ملابسه والتطبع بسلوكيات حياة اجداده التي يحلم بها، ولا أظن بان خنجره وزي جده القديم يعيد ما ذهب.

الكشفي وهو يطوف بنا ببيوتات تلك القرية وبساتينها ومقاهيها وتحفها المعمارية كانت اللوحة التي اراها أمامي، بساتين تتراقص باشجارها كحواري الجنائن على مسرح الحياة، لا فتات رفعتها اجنحة العصافير والبلابل واصواتها وكأنها مرحبة بضيوف تلك القرية بنشيد موطني، المقاهي التي على أرائكها الخشبية يجلس ارشيف ممتلئ الثراء بإرث لا يمكن أن يتجاهله التاريخ، موسوعات لعقول تتفاخر بذكريات امكنة تتسابق بلمعانها في سماء تلك المدينة الغافية بجميع منعطفات حياتها على ضفاف نهر ديالى، الذي يعد والدها

الشرعي.


التحفة السامرائيَّة والمعدان

ندخل مع مرشدنا داخل بيت يعود لعائلة سامرائية هاجرته لخارج العراق، ليشرح لنا تفاصيل بناء تلك الدار، وكأنه مهندس البناء لذلك الاثر العمراني المهم، غرف النوم والضيوف ومكان البئر والسرداب، الأبواب والشبابيك الخشبية، والمجاز والسقوف القصبية باعمدتها الخشبية، ورغم دخولنا له في ظهيرة صيفية، لكن برودة الهواء كانت تملأ تلك التحفة السامرائية وسط قرية الجمال البعقوبية، وهذا ما جعلني استغرب كيف لمالكي هذا الارث أن يتركوه ويصبح في خانة الاهمال وهو في هذا الترف العمراني، الذي لا يمكن تشييده في زمننا 

هذا .

يوضح لنا الكشفي أن أول من سكن المنطقة هم المعدان (مربي الجاموس) وكان يطلق عليهم (الدبات) نسبة إلى الدابة وسكنوا منطقة تسمى الآن (مال دبي)، ومن ثم انتقلوا إلى بستان آخر تدعى أيضا (الدبابيس) ومن ثم سكنتها عشائر ربيعة من آل ليلو وعشيرة طي وتميم والشيبانية وغيرها من عشائر العراق .


البيوتات الثقافيَّة

استاذنا التربوي الكشفي ذكر لنا أنه في العام 1920 زار الملك فيصل الأول قرية الهويدر وحل ضيفا في دار الشخصية المعروفة "جميل زاده"، والتقى مع الوجيه "شارود أفندي" الذي كان من زعماء الحركة البهائية في العراق ويقال إن الملك فيصل كان يعتنق المذهب البهائي، ولهذا السبب كانت زيارته بحسب قول محدثنا الذي بين لنا: كان في الهويدر دواوين تسمى (الديوخانه)، وهي أشبه بالبيوت الثقافية وأشهرها ديوخانة "الشيبانية" و"شارود أفندي" و"أمين أفندي المجمعي" و"شاكر القره غولي" ، وهذه الديوخانات لم يعد لها وجود الآن ، وتحولت مواقعها الى دور سكنية.

دار بنا مرشدنا الرائع في ازقة الهويدر، مررنا بمقاهيها الكثيرة وجامعها الوحيد (جامع الهويدر الكبير) ليستقر بنا المطاف عند اهم بناية بل اقدمها وهي بناية السراي، التي كانت مقرا للجيش العثماني، ثم تحولت الى مقر لقادة الجيش الانكليزي.


بناية الأدب والفن

 تشير المصادر الى أن البناية قد شيدت في العام 1913، أما اليوم فهي مقر دائم للعديد من منظمات المجتمع المدني، تتصدرها بناية مقر اتحاد ادباء وكتاب ديالى، وبناية مقر الفنانين، ومقر البيت الثقافي التابع للمحافظة.

ورغم أن البناية كما شاهدناها مخططة بشكل يدهش الناظر اليها، لكنها بحاجة الى ترميم وعناية وجهود استثنائية بموازنة مالية بسيطة من قبل المحافظ ودائرة الآثار في المحافظة، لجعل هذه البناية وجه حضاري آخر للمحافظة ولبعقوبة العطاء ولهويدر الجمال، لكونها الرافد الادبي والفني والاعلامي لتلك المدينة المعطاء في كل شيء، وهذا الامر ليس مستحيل الحصول، كما في ابيات الشاعر المرحوم "ملا عبود الكرخي" كمثال لحدوث الاشياء غير الممكنة على أرض الواقع حين يقول في إحدى قصائده" يصير ترسل للهويدر برتقال... يصير ترسل تتن غرشة للشمال.. يصير للمشخاب ترسل رز شتال" لتصبح تلك المقاطع الشعرية امثالا تضرب للخروج عن المألوف، لكون الهويدر مشهورة ببرتقالها، أما المألوف الذي يجب أن نراه على ارض الواقع هو اهتمامكم بهذه القلادة الجميلة لتزينوا  بها 

ضفاف نهر ديالى الخالد، والكلام موجه للمسؤولين، الذين وكلهم الرحمن رحمة لا نقمة على وطن ومواطن.