المشروع الاجتماعي عند الشهيد محمد الصدر

آراء 2024/05/12
...

 حازم رعد

مثلت فترة ظهور السيد الشهيد الصدر على مسرح الأحداث في تسعينيات القرن العشرين حدثاً مهماً لعله من أهم الأحداث جميعاً نظراً لأهميَّة المرحلة سياسياً فهي فترة تاريخيَّة شهدت أحداثاً جساماً (حرب الخليج الثانية وفرض الحصار الاقتصادي على العراق أعقبها بعد عدة سنوات اجتياح العراق واحتلاله)، كذلك أهميَّة المرحلة تكمن في تشدد النظام على الداخل الاجتماعي الراقي لتوجسه الخيفة من أي حركة يعتقد أنها معادية، فالثورة الشعبانيَّة عام 1991 جعلت النظام ينظر بالريبة والخشية من كل حراكٍ جماهيري،

 ناهيك عن أنَّ النظرة العامَّة المأخوذة على الشيعة عموماً بأنَّهم (ثوار إذا ظهروا ومتآمرون على قلب الدولة إذا اختفوا) كل تلك العوامل وغيرها جعلت لتلك المرحلة في تاريخ العراق السياسي أهميَّة كبيرة، فنحن إذاً بحاجة الى تقليب إحدى صفحات تلك المرحلة المهمَّة لنستشفَّ أهميتها وخطورتها والفاعليات المتصارعة فيها، ونستوضح كذلك المسار الذي كانت تأخذه الأحداث والمشاريع المُعدَّة من قبل أطرافٍ عديدة كل واحد منها له رؤية وستراتيجيات وغايات تحاول تطبيقها على أرض الواقع.

فمن أهم أحداث تلك الفترة هو ظهور السيد الشهيد محمد الصدر في قلب الأحداث لتلك المرحلة، ولفهم المنظومة التي كان يتعكز عليها لا بُدَّ أنْ نحددَ نوعَ العمل والستراتيجيَّة التي اتخذها للنهوض بالواقع آنذاك.

كان الهاجس الاجتماعي هو الهم الأكبر الذي شغل اهتمامات السيد محمد الصدر، فلو رجعنا الى أسس المنظومة التي انطلق منها السيد الشهيد لرأينا أنَّها تشبه كثيراً باقي المنظومات التقليديَّة السائدة للمرجعيات الشيعيَّة، فالسيد الشهيد الصدر فقهاً وأصولاً واهتماماتٍ منهجيَّة حوزويَّة كانت قريبة من الاتجاه العام السائد ولم تفترق عنه بالشيء الكثير (سوى في الجزئيات التي يختلف هو فيها مع سواه وهذا الاختلاف طبيعيٌّ نظراً للطبيعة الاجتهاديَّة داخل العمق الشيعي إجمالاً) ولكنْ بالنظر الى الاهتمامات الاجتماعيَّة نلحظ أنَّ هناك مشروعاً كبيراً عمل السيد الشهيد على تطبيقه والسير في خطواته في اتجاهات عديدة كلها تصبُّ في مجرى واحدٍ هو رفع مستوى الوعي للفرد الشيعي وجهله بمستوى تحمل المسؤوليَّة الدينيَّة والاجتماعيَّة، ولعلَّ من هذه الخطوات: هي خلق وسائل اتصال بين المجتمع والحوزة العلميَّة لعلَّ أهمها (إقامة صلاة الجمعة، وفتح المكاتب في المحافظات، ورفد المدن بالوكلاء المزودين بوكالات عامَّة للاهتمام بشؤون الناس وكان يشترط بهؤلاء بالدرجة الأساس بقوة القلب والشجاعة لأنَّ المرحلة تتطلبُ ذلك نظراً لشراسة النظام وتغلغل مجساته داخل الوحدات الاجتماعيَّة).

ثم أنَّ العمل على كسر حاجز الخوف المتسرب في صدور الناس الناجم عن تجارب مريرة مع بطش النظام وشراسة آلة قمعه مشغلٌ مهمٌ في تراث هذا العالِمِ الجليل، فكان يكرر دعواته الى زيارة الحسين وسائر مراقد الأئمة والاهتمام بإقامة الشعائر الدينيَّة التي تفترض اجتماع الناس والملاقاة المستمرة في ما بينهم، ما يعزز الثقة بالنفس ويزيح الخوف عنهم.

كما كانت اهتماماته الاستثنائيَّة بقضايا تتصلُ مباشرة بحياة المواطنين، فمطالباته بتوفير الكهرباء والخدمات من على منبر الكوفة كانت حدثاً لم تألفه الساحة الدينيَّة إطلاقاً، بل إنَّ استنكاراته المتكررة لانقطاع التيار الكهربائي (وهو ما يعكس ضعف قدرة النظام على توفير أبسط مقومات عيش المواطنين) فيه إشارات لوعي اجتماعي جديد وتحدٍ لم يسبق أنْ كان موجوداً على الساحة الشيعيَّة لا أقل في العراق (لأنَّ النموذج الإيراني قد تخلص من همّ الحكام المستبدين بثورة روح الله الخميني) ومن المؤكد أنَّ استنكار قطع الكهرباء والمطالبة بتوفيرها يحملُ في طياته رسالة توبيخٍ وذمٍ للنظام وقدراته الضعيفة على توفير مستلزمات رفاه الناس.

كما أنَّ التحدي الاجتماعي الأكبر كان هو التدخل المباشر “عبر المطالبات المعلنة” بإطلاق سراح السجناء والمعتقلين “الدينيين” وأنَّ لا داعي لاستمرار بقائهم في السجن، فيه رسالة صريحة بالظلم والاضطهاد الذي يمارسه النظام ضد الشعب العراقي، فالمتأمل في ذلك يدركُ خطورة الخطاب الذي نهض به السيد الشهيد ما يجعله وكأنَّه اقتحم حقلَ ألغامٍ خطيرٍ جداً وجعله بمواجهة مباشرة مع النظام، فالواضح آنذاك مشروعٌ اجتماعيٌّ تحمَّلَ أعباء القيام به السيد الشهيد الصدر الذي مثل معارضة الداخل، في مقابل مشروع البعث الصدامي

القمعي.

أيضاً الملاحظ أنَّ من الخطوات المهمَّة في المشروع الاجتماعي هو ملء فراغ الرمز الذي كانت الناس تتوقُ إليه وتتعطشُ الى وجوده فبعد فراغ الساحة الشيعيَّة (لقيادة اجتماعيَّة) لعقودٍ طويلة جعل الناس في توقٍ كبيرٍ لوجود رمزٍ وقيادة لا أقل تنهضُ بتطلعاتهم وأمانيهم وتشبع فيهم رغبة المواجهة وحفظ الهويَّة الدينيَّة من التلاشي وهذا ما مثله السيد الشهيد الصدر بمشروعه الاجتماعي = الديني الذي نهض به في تسعينيات القرن العشرين والذي كان ختامه استشهاده مع اثنين من أبنائه على يد جلاوزة النظام البعثي القمعي.

إذنْ كان الاستثناء في منظومة السيد الصدر هو الخطوات العمليَّة في بعدها الاجتماعي التي اختلفت عن السائد، وإلا فهو فقهاً ومنهجاً وعمقاً يمثلُ الامتداد الطبيعي طبقاً لمعايير تصنيفات المرجعيَّة الدينيَّة والحوزة العلميَّة الشيعيَّة في العراق ولن يختلف عنها كثيراً إلا في استثناءات فقهيَّة كما قلنا أعلاه، والاستثناء الأهم والأكبر هو مشروعه الاجتماعي الناشد الى تحقيق وعيٍ مختلفٍ عن السائد وحضورٍ للهويَّة الدينيَّة الشيعيَّة ببعدها الوحدوي المجتمعي المنسجم مع طبيعة الوضعيات العراقيَّة.