الخطّ العربيّ.. بدايته وتطوّره وحاضره

ريبورتاج 2024/05/12
...

   رحيم رزاق الجبوري


ويعتبر الخط العربي مزيجا بين الجمال والحركة والتشكيل مقترنا بتقنيات وأشكال متعددة ومختلفة تلتزم وتعتمد على قوانين صارمة وحسابات لكل حرف تخطه أنامل الخطاطين حسب براعتهم ومهارتهم، فهو بلا شك فن عبقري وفريد يبهر الناظرين ويسحرهم.

وقد برع فيه الكثير من العمالقة وطوروا أساليبه وتقنياته وفنونه كما وتفننوا في ابتكار لوحات بديعة، ساهمت بتوظيف الحروف العربية التي تكتنز على عنصر مهم وذلك بطواعيتها في التشكيل، وقدرتها التعبيرية والتجريدية الكبيرة والمؤثرة. 

ولهذا يعتبره المختصون بأنه من أبرز الفنون التشكيلية، ويحتل الصدارة بالنسبة لفنون الخط بالعالم، بفضل تطور جمالياته وتنوع أشكاله ومدارسه وأنواعه وأساليبه. 

ولهذا يعد الخط العربي شاهدا على عظمة الفن الإسلامي وازدهاره. 

ودليلا قاطعا على عبقرية وسحر لغتنا العربية الجميلة؛ التي تميزت بحروفها المتصلة ممّا جعلها قابلة لاكتساب أشكال هندسية مختلفة.  


مرحلة التطور السريع

يقول الخطاط جاسم الربيعي (مؤلف برنامج خطّي أجمل ومدرّب مهارات تحسين خط الكتابة اليدوية): إن "الخط العربي دخل مرحلة التطور السريع بعد الإسلام وأخذ باتجاهين، الأول: هو للكتابة والتدوين، والثاني: هو تجريده وتطويره لكونه أحد الفنون الإسلامية المهمة. 

وظهر بصورة واضحة في العصر الأموي الذي كانت فيه شكل الكتابة الذي غلبت فيها الخطوط المستوية والحادة وخصصت في الغالب لكتابة القرآن الكريم وهو العصر الذي بدأ فيه الأسلوب الفني في محاولات لخطاطين وبالذات (قطبة المحرر) الذي خرج بالخط اليابس والمسمى بالكوفي وبدأ في استنباط أقلام جديدة، أبرزها قلم الطومار والجليل فاتحا أمام الخطاطين باب التنوير والاستنباط فأخذ كل كاتب يستخدم مواهبه الفنية محاولا إيجاد قاعدة جديدة في الخط حتى كثرت أشكاله وتنوعت أصوله وتعددت فروعه مما أدى إلى دخول النقط والشكل في الخط نتيجة اختلاط العرب بالأعاجم وظهور جيل جديد يلحن". 


مركز الابتكارات

ويضيف: "ولحفظ ألسنتهم من الخطأ واللحن وضعوا له أبوابا في النحو وابتكروا الشكل والأحجام، حيث كانت للكوفة المركز الرئيسي لهذه الابتكارات، وبذلك هي أول حاضرة عربية ينسب لها الخط العربي بعد أن صارت مقصد أفئدة العلماء والأدباء والفقهاء.

إلى أن جاء القرن الثالث الهجري وبدأت بغداد يسطع نجمها وامتلأت شوارعها بحوانيت الوراقين وأصبح فيها سوق للوراقين، وبدأت تتباهى بما فيها من خطاطين ووراقين متنافسين فيما بينهم بتحسين الخطوط والتأنق بكتابتها مكتسبة قيما جمالية جديدة لذلك برزت مدرسة بغداد الخطية في العصر العباسي بأسلوب فني رائع على يد أعلام الخط الأوائل، الذين وضعوا الأسس والنسب الجمالية لكل حرف من الحروف العربية وكان في مقدمتهم ابن مقلة، وابن البواب، وياقوت المستعصمي، وكان لكل واحد منهم أسلوبه الفني المتميز. حيث أنتجوا أبرز الخطوط العربية البغدادية، كخط الثلث وخط النسخ وخط الإجازة وخط المحقق والخط الريحاني وغيرها".


تاج الفنون الإسلامية

ويكمل: "ولكل ما تقدم، فليس من السهل أن نلم بموضوع الفنون الإسلامية وآثارها على مدى عقود وأزمنة ماضية في سطور أو كتيبات لما تحتويه من كنوز وآثار وشواهد باقية لحد الآن، وعلى رأسها فن الخط العربي الذي يعتبر تاج الفنون الإسلامية والذي ما زالت بصمته واضحة في الآثار المحفورة على المباني والمساجد والمنائر العديدة والمخطوطات النفيسة التي خطت بأجمل الخطوط العربية التي امتلأت بها خزائن المكتبات والجامعات، فضلا عن النقوش والزخارف الكتابية التي نقشت بها المعادن وخامة الخشب بطرز زخرفية قمة في الإبداع الإسلامي". 


ارتباط روحي

ويختم: "يأتي إبداع المسلم لهذا الفن؛ نتيجة لارتباطه الروحي والديني بقدسية الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة. 

ولحد الآن نرى الأشرطة الكتابية تطرز المساجد والأماكن المقدسة بالخط العربي أو الزخرفة بمختلف أنواعها لهذا كان الخط العربي محددا بالأداة والخامة التي ينفذ عليها إبداعه، ونرى أيضا أن تنوع الخط يختلف شكله ونوعه من خامة إلى أخرى، لذلك يسعى الخطاط المسلم دوما إلى تطوير وتطويع التشكيلات الفنية للحرف العربي خدمة لأهداف الروحية الإسلامية ومضامينها الجليلة".


فنٌ وتصميم الكتابة

بدوره يرى الخطاط محسن محمد: أن "ظهور الخط العربي وتنوع أشكاله جاء نتيجة لمرونة الحروف العربية وسهولة إنسيابيتها، واختلاف أقاليمها، ووضوح أشكالها.

فهو فن وتصميم الكتابة في مختلف اللغات التي تستعمل الحروف العربية. 

حيث تتميز الكتابة العربية بكونها متصلة مما يجعلها قابلة لاكتساب أشكال هندسية مختلفة. فهو عبارة عن خط تم اشتقاقه من الخط الكوفي، وكان يطلق عليه قديما اسم الخط القيرواني، وذلك نسبة لأحد المراكز الموجودة في المغرب العربي والذي يُعرف بالقيروان. كما أخذت الخطوط العربية مناهج عدة في التسمية، فسميت بعضها نسبة إلى أسماء المدن كالنبطي والكوفي والحجازي والفارسي، أو بأسماء مبدعيها، كالياقوت المستعصمي، والريحاني والرياسي، والغزلاني، كما سميت أيضا نسبة لمقادير الخط، كخط الثلث ثلث والنصف والثلثين، إضافة إلى تسميته نسبة إلى الأداة التي تسطره، كخط الغبار. وأشهر الخطاطين في تاريخ الحضارة الإسلامية، هم: ابن مقلة (إمام الخطاطين)، وابن البواب (صاعقة عصره) وياقوت الرومي (قبلة الكتّاب) وابن الهيّاج، وابن هلال البوصيري، والبروشكي، وحسني الخطاط، وغيرهم".


هندسة روحانيَّة

يصفه بأنه هندسة روحانية جاءت بآلة جسمانية، ويعد الخطاط مهندسا كونه يخط أنواع الخطوط بقواعدها وقياساتها وأصولها. ويقول الخطاط حسن علي الموسوي (نائب سابق لرئيس جمعية الخطاطين العراقيين) في مداخلته: "أن هناك عدة أنواع للخطوط العربية، كالثلث والنسخ والرقعة والديواني والديواني الجلي والتعليق الفارسي والكوفي وغيرها. 

كما أن هناك عدة طرق بالخط وفروعه. وحسب وجهة نظري أرى بأن الخط الديواني هو عروس الخطوط حيث يكتب بثلاث طرق، الطريقة العثمانية الذي ينسب إليها، والطريقة البغدادية والطريقة المصرية ويشتق منه خط الديواني الجلي".


نشأة وتطور

ويشير الخطاط جاسم التميمي (أمين سر جمعية الخطاطين العراقيين-فرع بابل) إلى: أن "نشأة الخط العربي قد بدأت في الجزيرة العربية عموما، وكان خطا يابسا غير منقوط. وهذا في القرن الأول الهجري حيث كانت تتم الكتابة على رقاع من جلود الحيوانات تعالج بطريقة خاصة لتتم الكتابة عليها. وأخذ الخط اسمه من الكوفة حيث كان يسمى بالخط الكوفي، وتعددت أنواعه وأسمائه فمثلا الكوفي الأندلسي أو الكوفي القيرواني إلى آخره.

ومن ثم تطور الخط في ما بعد لتظهر لنا أنواعا من الخطوط مثل خط النسخ والذي كان يسمى بخط البديع وسمي بالنسخ، لأنه خط سهل القراءة وكانوا ينسخون به الكتب قبل التطور والطباعة، وأيضا ظهر خط الثلث والديواني والتعليق (الفارسي) وخط الرقعة، كما ظهرت خطوط أخرى كخط الإجازة والذي هو مزيج بين خطي النسخ والثلث، وأيضا ظهر خط الديواني جلي والذي طور الخط العربي ووضع أشكاله المعروفة اليوم هو الخطاط (ابن مقلة)، ومن بعده الخطاط (ياقوت المستعصمي) اللذان وضعا اللبنات الأولى لهذا التطور الذي بقي مستمرا لغاية يومنا هذا".


فن اكتشاف الذات

واصفا إياه برحلة لاكتشاف الذات، ويعده فنا تقليديا فريدا يعكس جمال اللغة العربية وتعقيداتها، مؤكدا بأن تاريخه يعود إلى قرون عديدة، حيث تطور وازدهر في العالم الإسلامي. ويقول الباحث والخطاط ثائر الأطرقجي: إن "الخط النبطي، قد استنبط منه الخط العربي، وأخذ شيئا فشيئا يتباعد عن الأصل النبطي، حتى اتخذ صورة جديدة في القرن الخامس الميلادي، وعرف فيها بالخط العربي. 

وفي تلك الفترة المبكرة من تاريخ نشأته سمي في رحلة انتشاره وتداوله في سوريا والعراق بأسماء عدة لمدن وقبائل عربية، فعرف بالأنباري والحيري والكوفي. ومن مدينة الكوفة التي تأسست على يد قبائل أهل الحيرة والأنبار؛ ذاع وانتشر أول أنواع الخط العربي وهو الخط الكوفي".


تراث ثقافي

ويختم الأطرقجي (مؤلف كتاب الوجيز في الخط العربي) حديثه، بالقول: إن "الخط العربي يشكل جزءا لا يتجزأ من التراث الثقافي للشعوب العربية والإسلامية. 

ويتطلب مهارة ودقة فائقة في التحكم بالأدوات والأساليب الخاصة به، ومن خلاله يمكن للشخص أن يعبر عن نفسه ويكتشف جماليات اللغة العربية وتعقيداتها، ويعتبر وسيلة فريدة للتعبير الفني والتواصل، حيث يمكن للخطاط التعبير عن أفكاره ومشاعره من خلال تشكيل الحروف والكلمات بطرق مبتكرة وجميلة. وعندما يشرع الشخص في تعلم الخط العربي، يدخل في رحلة استكشافية لاكتشاف مواهبه وإمكاناته الفنية".