الصورة الفوتوغرافيَّة.. وثائق الحزن والرعب
باتريشيا ماكورميك*
ترجمة: نجاح الجبيلي
حين شاهدت ماري آن فيكيو مقطع الفيديو الخاص بلحظات مقتل جورج فلويد، شعرت بنفسها ترجع عبر الزمان والمكان إلى يوم مضى قبل أكثر 50 عاماً تقريباً. بعد ظهر ذلك اليوم من عام 1970، انبهر العالم بصورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود أظهرت شاباً ملقىً على الأرض، وكانت ماري آن في وسط تلك الصورة، وذراعاها مرفوعتان من الألم، وتتوسل المساعدة.تعد تلك الصورة، التي تظهر فيها آن وهي تركع فوق جثة طالب من جامعة كنت يُدعى جيفري ميلر، واحدة من أهم الصور في القرن العشرين. التقطها المصور الطالب جون فيلو، وهو يجسّد حزن ماري آن الشديد ودهشتها لإدراكها أن جنود الأمة الأميركية أطلقوا النار للتو على أطفالها.
تعد الصورة واحدة من تلك الصور النادرة التي غيرت بشكل جذري الطريقة التي نرى بها أنفسنا والعالم من حولنا، مثل صورة المتظاهر المنفرد الذي يقف أمام صف من الدبابات في ميدان السلام السماوي في بكين بالصين، أو صورة كيم فوك، الفتاة الفيتنامية العارية الهاربة من النابالم الذي أحرق منزلها للتو، أو صورة جثة إيلان كوردي الصغير البالغ من العمر 3 سنوات وهو ملقى على الرمال، بعد أن غرق هو وأمه وشقيقه أثناء فرارهم من سوريا.
لقد صدمتْ هذه الصور ضميرنا الجماعي، وأصرّت على أن ننظر إليها. لكننا في نهاية المطاف ننظر بعيداً، غير مدركين، أو ربما غير راغبين، في التفكير في المعاناة التي استمرت لفترة طويلة بعد أن انغلق مصراع الكاميرا، أو في التكلفة التي يتحملها البشر المحاصرون داخل تلك الصور. تقول ماري آن، البالغة من العمر الآن 65 عاماً: “لقد خطفت تلك الصورة حياتي. وبعد مرور 50 عامًا، ما زلت أواصل الطريق”.
وتقول إنها كانت تتمتع بروح متحررة قبل مذبحة كنت. تتذكر قائلة: “كنتُ طفلة تتدحرج في النهر على طوف، وأشعر بالسحر. في طفولتي، آمنتُ أن كل شيء ممكن”. لكن منزلها في أوبا لوكا بولاية فلوريدا، وليس بعيداً عن مطار ميامي الدولي، حيث كان والدها نجاراً، يمكن أن يكون غير مستقر. عندما كان والداها يتعاركان، كانت هي وإخوتها وأخواتها يتفرقون، حيث كانت ماري آن تختبئ في أماكن بعيدة مثل شاطئ ميامي، على بعد نحو 15 ميلاً من المنزل. وسرعان ما وقعت في مشكلة التغيب عن المدرسة. لذا، في فبراير/ شباط 1970، عندما أخبرت الشرطة ماري آن، التي كانت تبلغ من العمر آنذاك 14 عاماً، أنهم سيلقونها في السجن إذا قبضوا عليها وهي تتغيب مرة أخرى، غادرت البلاد، حافية القدمين. كانت ماري آن تتنقل عبر البلاد، وتنام في الحقول، وفي الأكواخ، وفي أماكن النوم المؤقت، وتعمل هنا وهناك للحصول على المال مقابل الطعام، الذي كانت تتقاسمه مع أطفال آخرين كانوا يتسكعون أيضاً. رؤية البلد، والتعرف على أشخاص جدد، ومشاركة الموسيقى واللقاءات العرضية - كان للمغامرة هذا الشعور السحري منذ طفولتها. إلى أن وصلت إلى مدينة كنت في شمال أوهايو، حيث اندلعت الاحتجاجات الطلابيَّة في الرابع من مايو/ أيار احتجاجاً على قرار الرئيس ريتشارد نيكسون المتورّط في فيتنام بغزو كمبوديا. توجهت ماري آن، مرتدية بنطال الجينز والوشاح الأبيض وزوجاً من الصنادل الهيبية التي أعطاها إياها أحد الأشخاص، نحو حقل يتجمع فيه الطلاب. وفي طريقها للانضمام إلى الاحتجاج، أجرت محادثة مع رجل يرتدي بنطلون جينز. شاهد الاثنان طالباً آخر يلوّح بعلم أسود، مستهزئاً بقوات الحرس الوطني التي تم إرسالها بعد أن أحرق المتظاهرون مبنى تدريب ضباط الاحتياط قبل ليلتين. وبدا أن الجنود يتراجعون إلى تل قريب. ثم، في الثواني الـ 13 التالية، أطلقوا أكثر من 60 رصاصة.
نزلت ماري آن على الرصيف وانتظرت حتى انقشع الدخان لتنظر للأعلى. كان جيفري ميلر، الطالب الذي كانت تتحدث إليه، ملقى على الأرض؛ لقد تم إطلاق النار عليه. ركعت على جسده بينما تسرّب الدم إلى الرصيف. مرّ طلاب آخرون بجانبهما، مذهولين أو مرتبكين للغاية بحيث لم يتمكنوا من النظر. تتذكر باكية وهي تصيح: “ألا يرى أحدٌ ما حدث هنا؟ لماذا لا يساعده أحد؟” ومع اقتراب الجنود، وأسلحتهم جاهزة، تتذكر أنّها سألتهم سؤالاً سيطرحه عليهم عدد لا يحصى من الناس في جميع أنحاء البلاد: “لماذا فعلتم هذا؟”.
وفي مكان قريب كان هناك المزيد من الجثث. أصيبت أليسون كراوس برصاصة في صدرها. ويليام شرودر في الخلف. أصيبت ساندي شوير، التي كانت تمر عبر المنطقة في طريقها إلى الفصل، برصاصة في الوريد الوداجي. وكان هناك أربعة قتلى في ولاية أوهايو.
كان أون فيلو طالباً في السنة الأخيرة بجامعة كنت في مايو 1970، وكان مصوراً فاتته فرصة تغطية الاحتجاجات تقريباً لأنه كان في الغابة يلتقط صوراً لأوراق العلّيق من أجل أطروحته العليا في نهاية هذا الأسبوع. كان جميع المصورين الآخرين في صحيفة الطلاب لديهم مهام من صحف خارج المدينة، لذلك كان جون، البالغ من العمر 21 عاماً، يعمل في مكتب الصحيفة للمساعدة في معالجة صورها. وفي استراحة الغداء، أمسك بالكاميرا وخرج. توجه مباشرة نحو مكان الحدث، حيث لوح أحد الطلاب في المنطقة الحرام بين الجنود والطلاب بعلم أسود. التقط جون صورة وهو يفكر: “حسنًا، لقد حصلت على صورتي”. وبعد لحظة، شكل الجنود خط بندقية. يقول: “وضعت كاميرتي أمام عيني ووجهتها نحو أحد الجنود. لقد صوب نحوي، ثم انطلق الرصاص من بندقيته. والشيء التالي الذي أعرفه هو أن رصاصة أصابت شجرة بجواري وتطايرت قطعة من اللحاء”.
سقط جون على الأرض وانتظر 13 ثانية من إطلاق النار. وعندما انقشع الدخان، وقف وربت على ذراعيه وساقيه، ليتأكد مما إذا كان قد أصيب. “لقد كان الأمر أشبه بالحركة البطيئة. لقد ظللت أتساءل: “كيف لم يتم إطلاق النار علي؟” ثم، على مسافة لا تزيد عن 10 أقدام، رأى جثة على الأرض. كان فيلم جون ينفد عندما رأى فتاة تركع بجانب الجثة. قال جون: “كنت أعرف أن الصبي قد مات، لكن يمكنني أن أقول إنها لا تعرف. كنت أرى شيئاً يتشكل بداخلها، وفجأة أطلقتْ هذه الصراخ وصوّرتُ أنا. صوّرتُ مرة أخرى، وأخرجتُ الفيلم”. وبحلول الوقت الذي أعاد فيه تحميل كاميرته، كانت الفتاة قد اختفت.
يتذكر جون أن الجنود أمروا الطلاب الذين كانوا في مكان الحادث بالتفرق “وإلا أطلقوا النار مرة أخرى”. وبعد لحظات قليلة، أعلن جنود باستخدام مكبرات الصوت أن الجامعة مغلقة. و”أمروا الجميع بالعودة إلى منازلهم”.
تتذكر ماري آن كيف ركضت، ولم تكن تعرف أحداً في ولاية كنت؛ لقد عرفت ميلر لمدة 25 دقيقة فقط. لكنها رأت قوات الحرس الوطني وهي تقتاد الطلاب إلى الحافلات، فتبعتها وهي في حالة ذهول. وبعد نحو ساعتين، عندما وصلت الحافلة إلى مدينة كولومبوس [بولاية أوهايو]، طلب الجنود من الجميع النزول. ركض العديد من الطلاب إلى أولياء الأمور المنتظرين. تسكعت ماري آن في شوارع المدينة، ولم تسمع قط عن مدينة كولومبوس.
عندما رأى جون قوات الحرس تقطع خطوط الكهرباء، ركض إلى سيارته. بعد إخفاء الفيلم داخل غطاء إطار السيارة، قاد سيارته لمدة ساعتين إلى مكتب صحيفة مسقط رأسه في غرب بنسلفانيا لمعالجة فيلمه. وبينما كان يشاهد الفيلم وهو يتطور، عرف أن لديه شيئاً يحتاج العالم إلى رؤيته.
حين اتصل بوكالة أسوشيتد برس من غرفة الأخبار في “تارنتوم”، قيل له إن الخدمة الإخبارية فيها الكثير من الصور لمدينة كنت الواردة من مكتبها في أكرون، أوهايو، وأن سعة الأسلاك بالكامل كانت تستخدم لإرسال تلك الصور. ولكن عندما حدث انقطاع غير متوقع في الإرسال من أكرون، استخدم جون الخط وأرسل صورته. ظهرت صورته للفتاة الحزينة على الصفحات الأولى من الصحف في جميع أنحاء العالم في اليوم التالي.
أتذكر رؤية الصورة في جريدة مسقط رأسي. عندما كنت في الثانية عشرة من عمري، تساءلت عما إذا كان الحكام في البلاد عازمين على قتل أطفالنا، في فيتنام والآن في الوطن. لكن ماري آن لا تستطيع أن تتذكر المرة الأولى التي شاهدت فيها الصورة؛ لا تتذكر اللحظة التي أصبحت فيها أشهر شخص مجهول في العالم.
بعد أيام من إطلاق النار شعرت ماري آن بالتوجس، فخرجت من مدينة كولومبوس، وانجرفت غرباً ونامت أينما استطاعت. لقد سمعتْ أنها مطلوبة من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي، لذلك لم تخبر أحداً عن هويتها. انتهى بها الأمر في منصة طائرة محطمة في إنديانابوليس، معتقدة أنها إذا تمكنت من الوصول إلى كاليفورنيا، فيمكنها أن تبدأ حياتها من جديد، لكن طفلًا في المنزل الذي كانت تقيم فيه تعرف عليها وأبلغ مراسلًا من صحيفة “إنديانابوليس ستار”. تحدثت ماري آن، التي كانت بالكاد متنكرة في ثوب الجدة والنظارات المزيفة، إلى المراسل، على أمل أن يعطيها أجرة الحافلة إلى كاليفورنيا مقابل قصتها. حصل المراسل على السبق الصحفي، ثم اتصل بالسلطات، التي وضعتها في مركز احتجاز الأحداث باعتبارها هاربة.
تقول: “كنت سأبقى مجهولة إلى الأبد. لكن ذلك الرجل من صحيفة “إنديانابوليس ستار دمرني” وفي غضون أيام، عادت إلى منزلها في أوبا لوكا بولاية فلوريدا.
رفض الكثير من الناس تصديق الفتاة التي يبلغ طولها نحو 6 أقدام ذات الشعر الطويل المتدفق والوجه الحزين، وكانت تبلغ من العمر 14 عامًا فقط. تلقت عائلتها مكالمات ورسائل تصفها بأنّها مدمنة، ومتشردة، وشيوعية. وقال حاكم ولاية فلوريدا إنها كانت “جزءاً من مؤامرة منظمة على المستوى الوطني من المحرّضين المحترفين” التي كانت مسؤولة عن وفاة الطلاب”. وبينما اعتبرها بعض الناس رمزاً للضمير الوطني، أعرب بعض طلاب ولاية كنت عن استيائهم من شهرتها، قائلين إنها لم تكن حتى متظاهرة.
كما استجوب مكتب التحقيقات الفيدرالي جون. ويقول إنهم طالبوا بفيلمه، وعندما رفض، يتذكر أنهم تعقبوه لمدة أسبوع تقريباً. ويقول إن هاتفه يرن دون توقف من متصلين مهووسين يصرون على أن الصورة مزيفة. لقد تلقى رسائل كراهية، بما في ذلك رسالة، كما يتذكر، كان نصها: “كان لدي صديق يموت في فيتنام. أنت التالي”.
في أوبا لوكا، كان والدها يبيع قمصانًا تحمل صورة ماري آن الحزينة. لقد وقعت على القمصان وهي لا تزال في حالة صدمة. تقول: “اعتقد الناس أننا أصبحنا أثرياء، لكننا لم يكن لدينا أي أموال على الإطلاق. يبدو الأمر سيئًا، لكن والدي فعل ما فعله من أجلي. لقد كان يعتني بي بالطريقة الوحيدة التي يعرفها”.
لاحقًا، في عام 1977، تم وصف ماري آن في برنامج “60 دقيقة” بأنها “طفلة غير متأقلمة”. في هذا البرنامج، قرأتْ بصوت عالٍ عدداً من رسائل الكراهية التي تلقتها، والتي كانت منتشرة على طاولة طعام والديها.
فازت صورة الطالب جون فيلو بجائزة بوليتزر. وقالت مجلة تايم إن صورته تجسد الشعور بأن حرب فيتنام قد عادت إلى الوطن و”اختصرت هذا الشعور في صورة واحدة”. يقول: “شعرتُ بالذنب الشديد. على بعد ذراع من يميني، أصيب رجل بالرصاص. وعلى مسافة ذراع أو ذراعين إلى يساري، قُتل جيفري ميلر. أنا حيٌّ الآن ومشهور نسبياً، وهم أموات”.
حين بلغت ماري آن 22 عاماً، غادرت ولاية فلوريدا، وانتقلت إلى لاس فيغاس، وتزوجت وحصلت على وظيفة في كازينو. نادرا ما تم ذكرها في القصص الإخبارية التي تحيي ذكرى أحداث 4 مايو 1970. وفي مايو 1990، قالت لصحيفة أورلاندو سينتينل إن الصورة “أثرت في حياتي حقًا”. ومع ذلك، قالت إنها فخورة بعملها حيث بنت حياة جديدة.
وفي الوقت نفسه، واصل جون مسيرته المهنية كمصور فوتوغرافي ناجح. (وهو اليوم رئيس قسم التصوير الفوتوغرافي في شبكة سي بي إس.) يقول إنه لم يمر يوم دون أن يفكر في طلاب مذبحة كنت - أو ماري آن. في بعض الأحيان حصلت له كوابيس عنها. وعندما أصبح أباً ونظر في عيني ابنته، رأى عيني ماري آن. لقد عذب نفسه من خلال التساؤل عن شعوره إذا التقط شخص ما صورة ابنته في مثل هذه اللحظة الضعيفة. يقول: “فكرت في التواصل معها عدة مرات. لكنني خشيت أنها تكرهني”.
كان جريجوري باين، الأستاذ في كلية إيمرسون ومؤلف كتاب “يوم من آيار في كنت” هو الذي خطرت له فكرة يعتقد أنها قد تساعدهما. في عام 1995، قام بتنظيم معرض استعادي لمناسبة مرور 25 عاماً على أحداث قتل الطلاب في مدينة كنت ومدينة جاكسون في ولاية ميسيسيبي، حيث جرى إطلاق النار على الطلاب وقتلهم على يد الشرطة في الوقت نفسه تقريباً. دعا كلا من ماري آن وجون للحضور. يقول باين: “كانت ماري آن منفتحة على الفكرة، لكن جون لم يكن كذلك في البداية. لقد كان يشعر دائماً بالسوء حيال حبسها في تلك الصورة، وقد قرأ أنها قالت إن ذلك دمر حياتها”. يتذكر باين أنه في اليوم السابق للقائهما، سأل ماري آن عما ستقوله لجون. “قالت إنها ليس لديها أي فكرة”.
يقول جون إنه “يخشى مقابلة ماري آن على الإطلاق”، لكنه قبل دعوة باين إلى المعرض الاستعادي، لم يكن متأكداً، حتى اللحظة الأخيرة، مما إذا كان سيستمر في ذلك. عندما جمع باين الاثنين معاً في اجتماع خاص قبل حفل الافتتاح، لم يكن أحد يعرف ما يمكن توقعه. يقول باين: “بدا جون خائفاً للغاية”. لكن ماري آن فاجأت الجميع وهي تقول عن جون: «رأيتُ الألم في عينيه، و شعرتُ بالأسف له”. ابتسمت وأخذت يده وعانقته. وانخرطا كلاهما بالبكاء.
وبعد المعرض الاستعادي، أعطاها جون نسخة موقعة من الصورة منقوشاً الكلمات التالية: “إلى ماري آن فيكيو الشجاعة، لا أستطيع أن أفهم كيف أثرت هذه الصورة على حياتك. أنا فخور بأن أدعوك صديقة”.
قلتُ لها:” لقد قمتِ بالفعل بشيء رائع جداً، في تلك اللحظة التي ركعتِ فيها على جسد جيفري ميلر، عبرتِ عن الحزن والرعب الذي كان يشعر به الكثير من الناس. لقد ساعدتِ في إنهاء حرب فيتنام”.
****
*باتريشيا ماكورميك: صحفية تكتب في “الواشنطن بوست”. وصلت إلى القائمة النهائية لجائزة الكتاب الوطني مرتين.