محنة المقابر الجماعية: البحث عن جثة والدي المجهولة

آراء 2024/05/16
...

 رعد أطياف


يقال إن لحظة الضحك هي من اللحظات التي لا تعوض، كونها توقف أعصى عملية يكابد من خلالها الكائن البشري أعني بها تلك الدوامة المفزعة من الأفكار. في تلك اللحظة يتوقف الذهن عن توهانه ويبرد مرجله الساخن، بسبب لحظة الضحك الساحرة. 

بيد أن الصدمات لها طعم خاص! أنها تحيل الكيان البشري إلى لحظة صمت ينعدم فيها الزمن تماماً؛ انه برود انفعالي يغدو فيه الإنسان كائنا مربوطا برباط خفي تغدو فيه عملية التفكير مشلولة تماماً.  هذا ما حصل لي بالضبط يوم شاهدت من على شاشات التلفزيون رقبة صدام حسين ملفوفة بحبل المشنقة. وبما أنها لحظة عصية عن التفكير سأكتفي إلى هذا الحد، مفلتاً العنان لخيال الناس، وهم يتذكرون تلك اللحظة التي شكلت منعطفاً حاسماً في تاريخ العراق السياسي. 

بعد الاستيقاظ من هذا اللحظة التاريخية، التي هزَّت بيتنا بأسره، اتجهت أنظارنا إلى سجون البعث، فهناك يمكث والدي طيلة عقدين وأصبحت حياته في سجل الغيب، حيث كانت تهمة اعتقاله الشهيرة “الانتماء إلى حزب الدعوة العميل” في بداية الثمانينيات، وكنت في ذلك الحين طفلاً لم يتجاوز عامه الثالث بعد.

لم أدع صحيفة إلا ونبشت فيها، في ذلك الحين، عن اسماء الشهداء الذين قضوا في سجون البعث، ولشدة هول لصدمة لم استوعب في تلك اللحظة ماذا تعني عبارة مقابر جماعية، فقد كانت تلك السياسة المشؤومة أحد ابتكارات حزب البعث التكريتي.  ويبدو من معايشتنا لهذا الوحش الكاسر كنا نعلم جيداً، أنه لم تكن شهوة القتل الفردي تشبع غرائزه الحيوانية، فعلى الأرجح تم استبدالها بسياسة القتل الجماعي، ما أفرز لنا محنة قاصمة للظهر، محنة البحث عن موتانا في ركام المقابر الجماعية المخفية. 

فقد أحال صدام حسين حياة الأبرياء إلى أرقام وهوامش. لكن حتى هذه الرمزية لم يحظَ بها والدي؛ حيث لا اسم ولا رقم ولا كنية تدل على قبره.. أين ذهب قبر والدي بالضبط؟

ما الطريقة التي أعدم بها؟

ما هو وجه الكائن المازوشي الذي تلذذ بتعذيبه؟

كل تلك الأسئلة وغيرها انطمرت في الذاكرة، جراء الوهن الذي أصابني عبر تلك الرحلة المكوكية للحصول على معلومة تدلني على قبره، لكن دون جدوى.

 بدت علامات الهزيمة والانكسار تتمكن مني، لأنني لن أحظى كما يبدو بأسبقية البشارة لولدتي؛ بشارة العثور على جثة زوجها أو، بعبارة أدق: شيء متبقي من هيكله العظمي. لم يكن ثمَّ قبرٌ أو رمزٌ أو إشارةٌ في تلك الخارطة الواسعة للمدافن المخفية، كل هذا الركام الهائل من المقابر الجماعية، لم يدلنا على خيط هادٍ لما تبقى من رفات الوالد. 

الكثير من الأسر لم تعثر على جثث أبنائها كاملة، فاكتفت بأجزاء بسيطة. ما زالت صورة الشيخ الكبير وهو يقبّل جمجمة ابنه ماثلة في مخيلتي. استلهمت من تلك الصورة أمل العثور على ما تبقى من والدي، لكن أيضاً دون جدوى سوى الحزن الذي تركته تلك الصورة.

 قادتني الصدفة إلى مؤسسة تعني بأحوال الشهداء، وهي واحدة من عشرات المؤسسات، التي ظهرت بعد سقوط البعث لتوثيق جرائم صدام حسين، وكانت هذه المؤسسة هي الوحيدة، التي لم أفتش فيها عن ملف الشهداء. 

راجعت موظف الاستعلامات واعطيته اسم والدي الكامل: نائب ضابط عبد الزهرة مهنا عطية، القوة الجوية، سرب السوخوي.. رتب لي الموظف لقاء مع مدير المؤسسة، وكان هو الآخر أحد ضحايا النظام المباد، تعرض إلى كسر في فكّه السفلي، وما أن سمع باسم الوالد وصنفه العسكري، طلب مني أن أراجعه يوم غداً وبدا غامضا جدا لدرجة أنه لم يتكلم بكلمة واحدة بعدها. 

جاء صباح اليوم التالي مسرعاً ومتلهفاً عن الجواب، وما أن دخلت على المدير بادرني فوراً بهذه العبارة: لا يوجد قبر لوالدك، لقد تمت تصفيته بحامض التيزاب، ولم يتبق من جثته شيء يُذكر.