وداد سلوم
بالنظر إلى العنوان يبدو أنه يتجاوز غزة حبيبتي بمعنى البقاء والالتصاق بالمكان رغم كل شيء إلى تصوير الحب في غزة تحت الظروف القاهرة التي يحياها الإنسان الفلسطيني، فكما صرّح المخرجان الأخوان ناصر (توأم) أن أعمالهما تهتم ليس بالحرب والسياسة، بل كيف يحيا الإنسان تحت هذه الظروف اللا إنسانية. نافس فيلم غزة مونامور، ممثلا فلسطين على جائزة الأوسكار عام 2020 عن فئة أفضل فيلم أجنبي، وقد شارك في مهرجانات عدة بعد عرضه الأول في كندا، وهو من تأليف وإخراج الأخوين ناصر المولودين في غزة عام 1988.
والفيلم مستوحى من قصة حقيقيَّة حدثت عام 2013 حيث عثر صياد فلسطيني «جودت أبو غراب» على تمثال لإله الحب والجمال «أبولو» في مياه غزة قبالة شاطئ دير البلح وقد صادرته الشرطة الفلسطينيَّة ولم يعد معروفاً مآله.
قام بدور الصياد الفنان والمخرج الفلسطيني «سليم ضو» في أول بطولة سينمائية له، وهو دور رجل بلغ الستين من العمر من دون زواج يُدعى “عيسى ناصر” ويعيش من بيع صيده في السوق ويحب جارته الخياطة الأرملة سهام التي تقوم بتسويق بضاعتها في السوق نفسها، ويتردد في مصارحتها. بينما تسعى أخته جاهدة لانتقاء عروس له بطريقة تقليديَّة متجاهلة أن يكون بإمكانه الاختيار عبر علاقة حب في هذا العمر.
يعيش عيسى في دائرته الصغيرة بين كسب قوته بالصيد وعواطفه تجاه جارته. ولا شك أن اختيار اسم البطل عيسى ناصر ليس عبثيّاً إذ يأتي إشارة واضحة إلى عيسى الناصري المسيح المولود في فلسطين. ليكمل عمله كصياد تلك الإشارة بأنّه رمز وامتداد للفلسطيني القديم المقهور والمصلوب في أرضه بالشقاء والقهر والاذلال اليومي، فضلاً عن تلك المسحة الكئيبة التي تظلل وجهه دوماً. رغم أنّنا نراه كيف يحاول الحياة على طريقته مستمتعاً بما هو متاح له، كسماع الأغاني وطريقته في الطبخ، ورقصه أثناء ذلك، ووحدته التي تعكرها زيارات وتدخلات أخته المتكررة.
وظف المخرجان طريقة التصوير لحركة البطل في المكان لأخذنا إلى الجو العام في غزة فالجدران ترتفع شاهقة كالأسوار، والطرق ضيقة كناية عن الحصار الحقيقي والذي يطال كل جزء في غزة، بينما تحلق الطائرات بشكل مستمر فوقها، ونرى التهكم على حواجز السلطة، التي همّها إبقاء الناس في الاستعداد للانصياع التام بينما يشغلها الخطابات والإعلام ولا علاقة وديَّة لها مع الناس، فها هو عيسى الناصري ينجح بالمرور عليها وتمرير تمثال علق بشبكته أثناء الصيد من دون أن ينتبه أحد، والتمثال للإله أبولو ورغم أن عيسى لا يعرف قيمة التمثال الفنيَّة أو الأثريَّة، لكنّه يظن أنه من معدن ثمين قد ينقذه من ضيق الحل فيقوم بإخفائه “كما يخفي حبه لسهام” على صعوبة ذلك في حمله ونقله وحتى ينكسر أثناء ذلك قضيب التمثال المنتصب، فيأخذه ليفحصه عند الصائغ، الذي لا يعطيه نتيجة مؤكدة، لكنه يحاول عقد صفقة معه، وحين يتركه يقوم بإبلاغ الشرطة عنه.
تصادر الشرطة الفلسطينيَّة التمثال وتسجن عيسى بتهمة حيازة الآثار. لنرى تعامل الشرطة مع المتهم وبيروقراطيتها والهوة بينها وبين السكان، فهي لا تختلف عن شرطة أي سلطة رغم أن الوضع الفلسطيني لا يحتمل ذلك التشابه.
يطلق سراح عيسى ويختفي التمثال، لكنه يحاول مصارحة جارته بحبه وعلى هامش لقاءاتهما تمر مواقف كوميديَّة خفيفة بسبب ذلك التردد الناتج عن عمر كليهما كموقف تقصيره للبنطلونات عندها وهي خياطة نسائيَّة من دون أن تقوم بأخذ قياساته فتكون النتيجة غير مناسبة ومثيرة للضحك.
يصور الفيلم واقع الحياة اليوميَّة في غزة ويشير إلى سيطرة الفكر الديني في عرض أكثر من ظاهرة. كأن ينهر ضابط الشرطة الفنان الذي استدعي للقيام بتقييم التمثال حين سماه بإله الحب والجمال فهذه التسمية حرام، إلى إشارات كثيرة، كالصلاة أثناء التحقيق مع عيسى وغيرها.
أخيراً ينجح عيسى في لقاء جارته وحيداً ليطلب الزواج منها مباشرة وأثناء ذلك تصل ابنتها المطلقة والمقيمة عندها من الجامعة في ذات لحظة المصارحة بينهما، فتبدأ بالضحك، وتتبعها أمها وثم عيسى، ليغرق الثلاثة في ضحك هستيري طويل.
في مشهد أخير نرى عيسى وزوجته سهام ليلة زواجهما في لقاء حميمي على مركبه في عرض البحر، وأثناء ذلك يصلهم زخات رصاص من قبل خفر الشاطئ الاسرائيلي لتجاوزهم الحدود المسموح بها وهي ثلاثة أميال فقط، كما شرح عيسى في بداية الفيلم، للضابط أثناء سؤاله عن المكان الذي وجد فيه التمثال هل هو في أول البحر أو منتصفه أم آخره.
فيضحك عيسى قائلا: همّ ثلاث ميال!
إنّه بحر غزة ثلاثة أميال فقط وبعدها سيكون رصاص الاحتلال في مواجهتهم.
يدير عيسى القارب ويعود مع زوجته تحت الأضواء الإسرائيليَّة لندرك حجم الحصار الذي يمتد في البر والبحر والجو على الفلسطيني مضيقاً عليه المكان والحياة في كل لحظة.
تبقى الإشارة التي استخدمها المخرجان للدلالة، على العجز العام، وفقدان الفعل تجاه هذه الظروف؛ في كسر قضيب الإله أبولو أثناء نقله من قبل الصياد عيسى. وبالمقابل نرى الاحتفالات والمهرجانات التي تديرها الفصائل تحت لواء السلطة والحافلة بالأغاني الحماسيَّة والخطابات والتصوير، وأما الموسيقى التصويريَّة فكانت جزءاً من القصف المستمر والدوري الذي تقوم به إسرائيل على غزة، ومن تلك الخطابات وأخبار الحروب في نشرات الأخبار الكثيرة وغيرها، في محاولة لنقل واقع المدينة الحقيقي حيث الفقر بادياً في البيوت وطريقة الحياة وإفلاس أصحاب المحلات والمعاناة من جراء انقطاع الكهرباء.
إنّها الصورة عن العجز العام أمام ظروف الاحتلال والحصار المستمر الذي يحكم أصغر التفاصيل الحياتيَّة المضطربة أما اختفاء التمثال فليس سوى تعبير عن محاولة سلب التاريخ المدروسة والتي تتابعها دولة الاحتلال بلا توقف في محاولة سلب الهوية الفلسطينيَّة أيضا حيث يعود التمثال الى خمسة آلاف عام قبل الميلاد ويرتبط بوجود الفلسطيني على أرضه منذ البداية وهو ما تريده دولة الاحتلال سلب هذا التاريخ كبصمة في هذه الهوية، ولا شك أن استهانة القائمين في السلطة بما يحدث من تفاصيل إنما تشكل الصورة العامة لواقع ممزق بين الاحتلال ورؤية المقاومة.
حصل الفيلم على جائزة نيتباك في مهرجان تورنتو كأحسن فيلم آسيوي، كما نال جائزة أفضل فيلم في مهرجان القاهرة الدولي عام 2021، ونال “سليم ضو” جائزة البرتقالة الذهبيَّة عن دوره في مهرجان أنطاليا وجائزة أفضل ممثل في مهرجان مالمو في السويد وغيرها من الجوائز.