المقابر الجماعيَّة.. عنوانٌ لتضحيات شعب جاهد ليتحرر

ريبورتاج 2024/05/16
...

 عباس رضا الموسوي 

لازمت المقابر الجماعية سيرة النظام الصدامي القمعي، الذي حكم العراق لعقود من الزمن المر، بيد من حديد وبطش طيلة سنوات حكمه بمعارضيه في مختلف أنحاء المدن العراقية، غير أن المقابر الجماعية، وبحسب المنظمات الدولية جل ضحاياها هم من الشيعة والأكراد، الذين قادوا التمرد علنا ضد نظام حكمه المشؤوم، خصوصا في سنة 1991 بعد هزيمته في الكويت، وعودة الجيش العراقي منكسرا، فانطلقت شرارة الانتفاضة من جنوب العراق، لتشمل العديد من المدن العراقية الغاضبة، فضلا عن وجود مقابر جماعية لمعارضين أعدموا في سنوات ما قبل الانتفاضة الشعبانية وما بعدها، وضمت العديد من أبناء الشعب العراقي لانتمائهم السياسي المعارض لنظام الدكتاتور صدام المقبور.

الكشف عن المقابر الجماعيَّة

لقد كانت الفترة التي عاشها العراقيون بعد سقوط نظام المجرم صدام حسين في سنة 2003 من أهم الفترات التاريخية في العراق، حيث يمكن تسميتها بفترة اكتشاف المقابر الجماعية، كون العراقيين تركوا منازلهم وراحوا يشكلون جماعات متفرقة، بحثا عمَّا يوحي لهم في هذا المكان مقبرة، لتبدأ عملية النبش في الصحارى وفي الجبال وعلى مشارف الاهوار، حيث إن أدوات البعث الصدامي تفننت بإخفاء معالم جريمتهم، دون أن يكترثوا لمشاعر ذوي ضحاياهم. 

لقد عمد النظام القمعي إلى انشاء مقابر جماعية في مناطق مختلفة من خارطة المدن العراقية، متخذا من المناطق البعيدة مكانا لإخفاء جرائمه، لذا كانت عملية البحث عن المقابر الجماعية شاقة ومضنية، بالاضافة إلى عدم وجود التقنيات الحديثة للتعرف على رفات الضحايا الا بعد فترة غير قصيرة، خصوصا الضحايا الذين اعدموا قبل سنوات بعيدة، حيث أكل التراب كل ما يعرف الأهل بهم. 


كاكا رحمه حكاية موجعة

عندما انهالت بنادق الجلاوزة بالرصاص على عشرات الرجال والنساء والاطفال الكرد، الذين جلبهم النظام القمعي من شمال العراق، يقوم بتصفيتهم ليلا في صحراء وادي مهاري ببلدة الشنافية 85 كم غرب مركز محافظة الديوانية سقطت (رحمه) من الرعب في لحظة تنفيذ الإعدام الجماعي، وعند الصباح وجدها أحد الرعاة وجلبها معه، لتعيش متخفية ساعدها في ذلك وقوف بعض قيام مرقد الامام عبدالله ابو نجم، والآثار النفسية التي نتجت عن تلك الليلة السوداء، لتعيش أمام أنظار أزلام النظام القمعي بصفة (مجنونة)، لا تدرك من الحياة سوى الغذاء والنوم، حتى فرج الله تعالى عنها في سنة 2003 لتعود إلى ذويها الذين لم يتعرفوا عليها الا بصعوبة، لكونهم أقاموا لها مراسم العزاء قبل 18 سنة.

وبقيت هذه السيدة الكردية التي توفيت مؤخرا في ذاكرة الشعب العراقي أنموذجا صارخا لقسوة النظام الديكتاتوري واحكامه الاجرامية بحق الشعب العراقي، الذي ذاق مرارة الحروب والمجاعة والتشرد والقتل الجماعي والاسر وإخفاء المصير.


ما وجدنا له اثر

ان الكثير من الضحايا الذين اعدموا زورا وبهتانا على يد طاغية عصره المقبور صدام حسين، لم يجد ذووهم رفاتهم، فبقوا في طي المجهول حتى يومنا هذا، ويقول بسام معن الغزي: لقد اعدم اخي الاكبر حازم (مقدم في الجيش العراقي) لميوله المعارضة لنظام الحكم انذاك، وتم تسليم رفاته لنا بعد ثلاث سنوات واجبرنا على عدم اقامة الفاتحة وتلقي العزاء، ولكن اخي ناظم (ملازم في الجيش العراقي) لم نجد رفاته، ولا تعرف مصيره منذ سنة 1991 رغم محاولاتنا المتكررة لمعرفة مصيره مضيفا: لقد جن جنون امي في البحث عن ولدها، وعندما يئست اخذت تعيش أوضاعا نفسية صعبة، وتتحدث مع نفسها كثيرا حتى انهارت قواها ودخلت في غيبوبة منذ سنوات، وما زالت في غيبوبتها حتى يومنا هذا. 

اما حسين علي الخزاعي فيقول: لقد تم اعدام اخي وكل افراد اسرتنا ولم نجده الا بقايا من العظام في إحدى المقابر الجماعية بعد انهيار النظام القمعي. 

الحقيقة، أن ضحايا المقابر الجماعية ليس وحدهم من دفع ثمن التعسف الصدامي، حيث أن ذويهم ذاقوا امر العذابات بالبحث عنهم طيلة سنوات اختفاء احبابهم.


الآثار النفسيًّة التي خلفتها

إن المقابر الجماعية التي حدثت في العراق بهذا الكم الهائل تركت آثاراً نفسية على أبناء الشعب العراقي بما في ذلك الذين ليس لهم ابناء اعدموا، حيث أن مشاهد النبش وعويل النساء امام كومات العظام، وسرد القصص المروعة عن طريقة الإعدام الجماعي، وصور الضحايا الذين جلهم من الشباب، وغيرهم من مشاهد الحزن تركت أثرها البالغ على نفسية الانسان العراقي، خصوصا الاطفال الذين كانوا في تلك الفترة غير قادرين على استيعاب ما يرونه، ويقول الباحث في علم النفس علي كامل: لقد تركت المقابر الجماعية اثرها الشديد على نفسية المواطنين العراقيين الذين كانوا مبتهجين في الخلاص من النظام القمعي، وكان هذا النظام خطط مسبقا لافساد فرحة الشعب في حال سقوطه مضيفا: ان الكثير من ذوي الضحايا وغيرهم ما زالوا يعيشون أوضاعا نفسية صعبة، نتيجة تلك الصدمة المدوية التي اذهلت شعوب العالم، وعرفت الشعوب بحجم المأساة الانسانية، التي كان يعيشها الشعب العراقي على مدى عقود من الزمن، تحت سطوة السلطة الاستبدادية المتمثلة بالبعث ونهجه السياسي المقيت، مشيرا إلى أن بعض الاشخاص الذين لم يتحملوا هول الصدمة تعرضوا لجلطات وبعضهم أصيب بالجنون، واخرين بقوا يراجعون الطبيب المختص نفسيا لفترات طويلة.


داعش على خطى البعث

إن المقابر الجماعية التي تفنن المقبور صدام حسين بايجادها، باتت أنموذجا يلبي تطلعات قوى الشر في زمن ما بعد الديكتاتور، حيث عمدت (داعش) خلال استباحتها للمدن العراقية والسورية إلى إعادة إحياء المقابر الجماعية، لتضم خيرة الشباب المدافعين عن أوطانهم وأعراضهم ودينهم، حيث بعد القضاء على هذا التنظيم الارهابي بفضل الله تعالى وهمة الغيارى من أبناء الاجهزة الامنية على مختلف المسميات، وجدت مقابر جماعية انشأها داعش الارهابي، الذي تفنن بقطع الرؤوس واغتصاب النساء، وإعادة إحياء مظاهر الجاهلية، مثل السبي والعبودية، ومن بين المقابر الجماعية التي خلفها داعش الارهابي، مقبرة كلية الزراعة في حمام العليل جنوب الموصل، ومقبرة جماعية أخرى في غرب الموصل، ناهيك عن المقابر الجماعية التي خلفها هذا التنظيم الارهابي في سوريا، حيث اتخذ 

من النهج الصدامي الشرير طريقة لترسيخ حكمه الفوضوي الذي 

عمد إلى انتهاك حرية الناس، والتنكيل بهم وقتلهم بطرق غاية بالبشاعة.