المقابر الجماعيَّة واللامبالاة

آراء 2024/05/19
...

حسن الكعبي

يكشف مفهوم المقابر الجماعيَّة عن همجية الممارسات السياسية بأبشع صورها الاستبدادية وارتكاساتها الإنسانيَّة، وانحطاطاتها الخلقية، وهو مفهوم ارتبط بسيادة عصور الاستبداد السياسي وهيمنة الديكتاتوريات بصيغها السيكو- بائية، والتي لا تختلف عن بعضها البعض باختلاف الجغرافيات التي نمت فيها وحكمت ضمنها، فهاجس نفي الإنسان واستلابه وإبادته، يظل هو الهاجس الذي يوحد تلك الممارسات السياسية المنبثقة عن خطاب الكراهيات المنفلتة، ورغم أن المفهوم كشف عن صيغ الممارسات الوحشية، الا أن خطابات الادانة لم ترق إلى مستوى مواجهة الوحشية التي تؤطر هذه الممارسات، بل إن معظم الخطابات اتسمت بالبرودة حيالها، سيما ما يخص الخطابات الرسمية التي تتصف باللامبالاة إزاء الإبادات المعممة للإنسان.
أن لا مبالاة الخطابات الرسمية، سواء في بعض الممارسات الحكومية المنفردة أو ضمن المجتمعات الدولية في تعاملها مع هذه الجريمة الإنسانيَّة الكبرى يتكئ على خطاب مواز لهذه اللامبالاة، وهو الخطاب الاعلامي الرسمي، الذي بحجب الحقائق أو يحجب معظمها أو يقوم بحجب صورها الأشد تأثيرا في الوجدان الشعبي، كممارسة مستمدة من الإعلام الامبريالي المعروف بحجبه لإغلب الحقائق وإبراز إجزائها وهي استراتيجية اعتمدها الإعلام الامبريالي في تزييفه الحقائق على مر تاريخه.
تكشف التجربة الدموية ابان فترة حكم الفاشية البعثية، التي مارست ابشع الابادات الجماعيَّة بحق الشعب العراقي عن برودة خطابات الادانة في المواقف الدولية الرسمية، رغم أن تلك الابادات هي من أبشع الإبادات في التاريخ الحديث، ولم تشهد لها مماثلات سوى ما يحدث اليوم في - غزة - من قتل جماعي وعلى أكثر من مستوى دون أن ينهض خطاب رسمي مناوئ لهذه الجرائم اليومية، ودون أن يكون للإعلام العالمي موقف يضع المواقف الإنسانيَّة ضمن أولوياته في نقل الحقائق، التي تخص هذه النوعية من الجرائم، كخطابات تعلي من شأن الحقيقة وتنتصف لها.
صحيح أن الإدانة لهذه الجرائم، سواء ما تعلق بالجرائم، التي ارتكبت بحق الشعب العراقي، أو ما تعلق اليوم بالجرائم التي ترتكب بحق مواطني - غزة -، تجري في مساحات المجتمعات العربية أو الغربية أو في حدود الخطابات الثقافية أو الفكرية، إلا أن ذلك وعلى الرغم من أهميته، لا يمكن أن يؤدي إلى حلول جذرية لإنقاذ الإنسان المستلب والمباد من الممارسات الوحشية، التي تمارس ضده، ما لم تكن هنالك مواقف رسمية واعلام رسمي عالمي، حاضن لهذه النوعية من الإدانات الجماهيرية، فالمواقف الرسمية وحدها هي من تملك القدرة على المقاطعة وتصعيد الإدانة وتوجيه المواقف لصالحها، والخطاب الإعلامي الرسمي هو السلطة، التي تمتلك فاعلية التأثير وتعميم المواقف وعلى اكثر من مستوى، وفي مسار هذه التلاحم، فإن خطاب الإدانة الجماهيري، يتخطى انحباسه الحماسي إلى خطاب يحرر هذه الحماسة، إلى مستويات فاعلة قادرة على تقويض خطاب الكراهيات وتقويض امتداداته المنفلتة.