المقابر الجماعية بوصفها نتاجاً للفكر الأيديولوجي

آراء 2024/05/19
...

  د. عدي حسن مزعل

المهم أن معظم الأيديولوجيات الحديثة اتخذت من الإنسان شعاراً لها، فهي جاءت لخلاصه وتحريره من بؤسه، وإنها بمثابة الهادي والمرشد له بعد قرون من الضياع والاستغلال والفقر والظلم. وتشترك في هذه الدعوة حتى الأصوليات الدينية. وهكذا، فمن الأيديولوجيات الحديثة ذات الصبغة العلمانية إلى الأصوليات الدينية التي عاودت الظهور بقوة مع مطلع القرن العشرين، كان الإنسان هو ألف باء هذا الفكر وشعاره. وكان أيضاً العامل المشترك بين هذه الأيديولوجيات، العلمانية منها والدينية، هو (العنف والقسر والإكراه)
يذهب بعض الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع إلى أن الإنسان ذو طبيعة عدوانية، وأن العنف من خصائصه الجوهرية. هذا ما يقرره ابن خلدون وتوماس هوبز وفرويد. ويؤيد ذلك ما ذهب إليه الكثير من المؤرخين، من أن التاريخ البشري هو تاريخ صراع وحرب، وإن سنين السلام فيه نادرة إن لم تكن معدومة.
وقديماً، كان الصراع بين البشر يعود إلى أسباب اقتصادية أو سياسية، أو لنقل لأسباب تتصل بالاستحواذ والسيطرة.
ومع ظهور الديانات وانتشارها على نطاق واسع، ظهر ما يعرف بالحروب الدينية بين الأديان المختلفة، وبين المذاهب داخل الأديان الواحدة.
مع ذلك، فان العصور الحديثة من التاريخ، والتي يفترض فيها أن الإنسان قد تطور وتجاوز ماضيه البدائي والمتخلف، فاقت في رعبها وبشاعتها كل حقب التاريخ السالفة.
ويمكن رد ذلك إلى عامل تطور عبر قرون هو العامل الأيديولوجي، خاصة مع ظهور الأيديولوجيات الحديثة (الرأسمالية، الشيوعية، الفاشية، النازية)، وهي أيديولوجيات تنوعت في مضامينها بين الفكر الداعي إلى حرية الفرد ورفاهيته، والفكر الأممي الداعي إلى المساواة والعدالة بين الطبقات، والفكر العرقي العنصري.
والمهم أن معظم الأيديولوجيات الحديثة اتخذت من الإنسان شعاراً لها، فهي جاءت لخلاصه وتحريره من بؤسه، وإنها بمثابة الهادي والمرشد له بعد قرون من الضياع والاستغلال والفقر والظلم.
وتشترك في هذه الدعوة حتى الأصوليات الدينية. وهكذا، فمن الأيديولوجيات الحديثة ذات الصبغة العلمانية إلى الأصوليات الدينية التي عاودت الظهور بقوة مع مطلع القرن العشرين، كان الإنسان هو ألف باء هذا الفكر وشعاره. وكان أيضاً العامل المشترك بين هذه الأيديولوجيات، العلمانية منها والدينية، هو (العنف والقسر والإكراه).
ونتائج هذا المعنى، حيث العنف منهج وسلوك، ظهرت على نحو واضح في العراق منذ صعود الأحزاب الشمولية إلى السلطة مطلع الستينيات من القرن المنصرم، والتي لا نزال إلى اليوم نعيش أثار سياساتها المدمرة.
وتلك إحدى آفات مجتمعنا مثلما هي آفة مجتمعات غيره. فالتطرف واللجوء إلى العنف كان، ولا زال، سمة سائدة في مجتمعاتنا. وهذا المعنى يفرض علينا البحث عن أسبابه، عن جذوره التي تحول دون تجاوزه.
ذلك أن الحروب الخارجية والداخلية، وعقودا طويلة من الاستبداد والجوع والظلم والتمييز، وتكريس ثقافة العنف والتدخلات الخارجية في الشأن العراقي، فضلاً عن التخلف والتأخر على صعد عدة، هو ما جعل من العراق بيئة حاضنة للعنف وأرضًا خصبة للإرهاب والصراع.
وهذه الأسباب التي تنطبق على العراق، تنطبق بالمثل على معظم الدول التي عانت وما زالت من الإرهاب والإبادة (افغانستان، سوريا، باكستان، ليبيا، اليمن....الخ). علماً أن هذه العوامل غالباً ما تخلق نزعة أنانية، وتقتل الحس الجماعي والمصلحة العامة في نفوس أبناء هذه البلدان، الأمر الذي ينتج عنه في ما بعد غياب الحس الوطني، وهو ما نلمسه على نحو واضح في السياسة والعملية السياسية الجارية في العراق وغير العراق.
 لقد كان للأحزاب القومية التي استحوذت على السلطة، نصيب كبير من الرعب والمجازر التي شهدها العراق. فالبعث بوصفه حزباً قومياً، يدعو إلى الوحدة والحرية والاشتراكية، كما في شعاراته الشهيرة، لم ينتج على أرض الواقع سوى التجزئة والاستبداد والتمييز. كما أنه سرعان ما انحرف على أيدي دعاته وممثليه الماسكين بالسلطة صوب فكر وسلوك ضيق، أنتهى إلى اختصار الحزب وأهدافه في العشيرة، وبعدها العائلة، وصولاً إلى شخص الزعيم القائد. وقد ترتب على ذلك أن أصبح شخص القائد فوق الحزب والمجتمع، وغدا المساس به أو التعرض له مساس بضمير الأمة ومخلصها. ومن هنا كان القصاص على أشده من الثائرين على القائد وحزبه الشمولي.
 ومن هذا المنطلق الذي يقدس الفرد ويضفي عليه صورة المنقذ والبطل، وهو أمر افتعلته الشعارات والخطابات التبجيلية الأيديولوجية (وما أكثرها في العالم الإسلامي والدول المتأخرة)، تعرض الشعب العراقي إلى أبشع حملة إبادة عرفها التاريخ المعاصر، وذلك في تسعينات القرن المنصرم على أيدي طغاة وجلادين أتخذوا من الفكر القومي أداةً لتبرير شرعية سلطتهم وأفعالهم، وكان من نتاج ذلك مقابر جماعية على امتداد خارطة العراق، وأعداد لا تحصى من الشهداء والمفقودين.
 وهكذا، فما جرى على أرض الواقع، وخاصة في الدول التي تبنت أيديولوجيات شمولية، هو تدميرها داخلياً عبر سلسلة من السياسات الداخلية والخارجية، وعلى رأسها صناعة الحروب واستخدام العنف، وكأن الاستقرار والسلام مفردات لا وجود لها في أدبيات الأحزاب الشمولية. فالحرب، وضرورة الولاء للحزب والقائد (من هتلر وموسوليني وستالين حتى تشاويشسكو وكيم سونغ وصدام حسين)، وبث الرعب والخوف بين أفراد المجتمع، ثوابت لا غنى عنها في الفكر الشمولي.
 ويبقى أن هذه المناسبة الأليمة، تتطلب منا اخذ الدروس والعبر، فنحن بحاجة إلى مراجعة جذرية جادة لثقافتنا، وبصورة خاصة لتصوراتنا حول: الآخر، الهوية، الحقيقة، الاختلاف، المواطنة، الدولة، أقصد مراجعة جادة للمفاهيم التي تؤسس للتعايش وتكرسه في المجتمع.
إضافة إلى العمل على كل ما من شأنه محاربة الفكر المتطرف، فكر الإبادة والإقصاء والترويع، وخاصة الفكر الشمولي الذي أثبتت التجارب التاريخية، قديمها وحديثها، انه يرتد على المجتمعات هدماً وتدميراً. لذلك لا مفر من سيادة القانون وتكريس المواطنة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية ورفع الظلم ومحاربة التمييز، وكل ما يؤدي إلى تعزير السلام والتفاهم والحوار بدلاً عن الظلم والكراهية والتمييز.