الأحقاد الصهيونيَّة على العرب والمسلمين

منصة 2024/05/19
...

 ترجمة وتقديم: د. نادية هناوي

يشرع إدوارد سعيد في القسم الثاني من الفصل الثاني المعنون "الصهيونيَّة من وجهة نظر ضحاياها" من كتابه "مسألة فلسطين"1980 بعرض مقالات ودراسات كتبها سياسيون وصحفيون صهاينة، تكشف حقيقة ما في دواخلهم من أحقاد على العرب والمسلمين، ومدى تجاهلهم وجود الشعب الفلسطيني بممارسة التطهير العرقي الذي نجده الآن متجسّدًا في أبشع أساليب القمع والاضطهاد من دون أي تفريق بين الصغار والكبار أو المدنيين وغير المدنيين. يقول إدوارد سعيد: للقيام بذلك، كان من الضروري تصور ثم تنفيذ مخطط لإنشاء شبكة من المستعمرات، وسلسلة من المنظمات لتحويل فلسطين من حالتها الحالية "الإهمال" إلى دولة يهوديَّة.
لن تهاجم هذه الشبكة "الحقائق" القائمة بقدر ما تتجاهلها، وتنمو على حسابها ثم تغطيها في النهاية كما تغطي غابة من الأشجار الكبيرة رقعة صغيرة معشوشبة.
كانت الضرورة الأيديولوجية الرئيسة لمثل هذا النهج هي كسب الشرعيَّة لها، ومنحها وأحاطتها بالكامل بأرشيفيَّة آثاريَّة، وإلى حدٍّ ما بثقافة محليَّة كانت ولا تزال مغروسة بقوة في فلسطين.
أحد الأسباب التي دفعت وايزمان إلى تعديل مفهوم وعد بلفور - من كونه "إنشاء" وطن قومي لليهود إلى "إعادة تأسيس" هو على وجه التحديد إشعار المنطقة بقدم "الحقائق" الممكنة وبعدها.
لقد استمر استعمار فلسطين دائمًا بتكرار القول إنَّ اليهود لا يحلون محل مجتمع محلي أو يدمّرونه أو يفككونه.
وهذا المجتمع في حد ذاته خرق المعتاد في السيادة اليهوديَّة التي أخفيت أو أهملت ألفي عام وحكمت فلسطين ستين عاما ولكن في قلوب اليهود، كانت إسرائيل موجودة دائماً، وهو واقع يصعب على السكان العرب الأصليين إدراكه.
ولذلك أعادت الصهيونية زرع إسرائيل في فلسطين، وتمكنت من تحقيق الهيمنة اليهوديّة عليها.
 فكأن إسرائيل بمثابة عودة إلى وضع سابق، حتى ولو كانت الحقائق الجديدة تحمل قدراً أعظم من التشابه مع أساليب ونجاحات الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر(...) وهنا لا بدَّ من توضيح شيء، إذ إن في كل مشروع من مشاريع "إعادة تأسيس" السيادة اليهوديَّة على فلسطين كان هناك دائماً عنصران أساسيان: أحدها/ كان التصميم الدقيق على تحسين سمعة الذات اليهوديّة.
ولقد سمع العالم بطبيعة الحال الكثير عن هذا الأمر. وتم اتخاذ خطوات عظيمة في مجال تزويد اليهود بهوية جديدة والدفاع عنهم ومنحهم حقوقهم كمواطنين وفي إحياء لغة "الوطن" القومية (من خلال أعمال إليعازر بن يهودا)، وفي إعطاء العالم اليهودي بأكمله إحساسا حيويا بالمصير التاريخي.
وهكذا "كانت هناك أداة [في الصهيونية] يلجأون إليها، أداة يمكنها استيعابهم داخل هذه الحياة الجديدة.
بالنسبة إلى اليهود، كانت الصهيونية مدرسة وكانت فلسفتها التربويّة دائماً واضحة ودرامية وذكية.
ومع ذلك، فإن العنصر الآخر/ المعاكس جدلياً في الصهيونية والموجود في داخلها والذي ليس له مثيل -علماً أن الفلسطينيين اختبروه بشكل مباشر- كان عبارة عن حد ثابت وذكي بالقدر نفسه من الفوائد التي يحصل عليها اليهود في فلسطين في حين لا يحصل غير اليهود على أية فوائد سوى - العقاب فيما بعد-.
لقد كانت عواقب انقسام المشروع الصهيوني على فلسطين هائلة، خاصة بالنسبة إلى العرب الذين حاولوا التعامل بجدية مع إسرائيل. لقد كانت الأفكار الصهيونية حول فلسطين فعّالة جداً بالنسبة إلى اليهود، بمعنى رعاية اليهود وتجاهل غير اليهود، لدرجة أن ما عبرت عنه هذه الأفكار تجاه العرب لم يكن لها سوى رفض العرب لها. وهكذا اتّجهت إسرائيل نفسها إلى الظهور ككيان سلبي تماما؛ شيءٌ تمَّ بناؤه لنا لا لسبب سوى إبعاد العرب أو إخضاعهم.
إنَّ الصلابة والتماسك الداخليين لإسرائيل وللإسرائيليين كشعب ومجتمع، استعصيا على فهم العرب عموماً في معظم
الأحيان.
ومن ثم أضيفت إلى الجدران التي بنتها الصهيونية، جدران شيدت بنوع عقائدي، يكاد يكون وسماً لاهوتياً يقابل العروبة. لقد بدت إسرائيل وكأنها أداة بلاغيّة يقدمها الغرب لمضايقة العرب.
وما ينطوي عليه هذا التصور داخل الدول العربية هو سياسة القمع ونوع من السيطرة على الفكر. إذ لسنوات كان من المحظور الإشارة إلى إسرائيل في المطبوعات؛ وقد أدى هذا النوع من الرقابة بشكل طبيعي إلى توطيد الدولة البوليسية، وغياب حرية التعبير، ومجموعة كاملة من انتهاكات حقوق الإنسان، والتي من المفترض أن جميعها مبررة باسم "محاربة العدوان الصهيوني".
مما يعني أن أي شكل من أشكال القمع في الداخل كان مقبولاً لأنه يخدم "القضية المقدسة" المتمثلة في "الأمن القومي" تجاه إسرائيل والصهاينة في كل مكان.
وكانت نتائج الفصل العنصري الصهيوني كارثيَّة بالقدر نفسه. وكان يُنظر إلى مفردة العرب على أنّها مرادفة لكل شيء منحط ومخيف وغير عقلاني ووحشي. إنّ المؤسسات التي كان إلهامها الإنساني والاجتماعي (وحتى الاشتراكي) واضحاً بالنسبة الى اليهود، مثل الكيبوتس وقانون العودة ومرافق مختلفة لتثاقف المهاجرين، كانت على وجه التحديد، وبشكل حازم غير إنسانية بالنسبة الى العرب. لقد عبر العربي في جسده وكيانه ومشاعره النفسية عن كل ما يقف بالضد من الصهيونية بحكم تعريفه لها. أعتقد أن إنكار العرب لإسرائيل كان أمرا أقل تطورا وتعقيدا بكثير من إنكار إسرائيل للعرب، ثم التقليل من شأنهم لاحقا. وعلى الرغم من تقاسم الصهيونية الأفكار مع الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر، فإنها بدت وكأنها ليست مجرد نسخة طبق الأصل من هذا الاستعمار.
هدفت الصهيونية إلى خلق مجتمع لا يمكن أن يكون سوى "محلي" - بالحد الأدنى من الروابط مع مركز حضري- وفي الوقت نفسه قررت عدم التصالح مع السكان الأصليين الذين كانت تستبدلهم بمواطنين جدد -ولكنهم أوروبيون في الأساس-.
كان مثل هذا الاستبدال اقتصاديا تماما؛ ولن يحدث أي انزلاق من المجتمع العربي الفلسطيني إلى المجتمع الإسرائيلي، وسيبقى العرب، إذا لم يهربوا، مجرد كائنات خاضعة وسهلة الانقياد.
وكل ما بقي من تحدٍّ لإسرائيل لم يكن يُنظر إليه على أن هناك شيئا، بل هو علامة على شيء خارج إسرائيل، وأن الصهيونية عازمة على تدميره. هنا تبنّت الصهيونية حرفياً التصنيف الذي استخدمته الثقافة الأوروبية لشرق مخيف يواجه الغرب، باستثناء أن الصهيونية بوصفها حركة غربية (..) واجهت الشرق في الشرق.
إنَّ النظر إلى ما قالته الصهيونية عن العرب عموماً، والفلسطينيين على وجه الخصوص، يشابه ما جاء في مقال نُشر في صحيفة معاريف في 7 تشرين الأول/ أكتوبر/ 1955 لكاتبه الدكتور أ. كارلباخ، الذي كان مواطنا متميزا وليس ديماغوجيا فجا. وعلى الرغم من أنه يعطي مكانا للفلسطينيين، فإن حجته هي أن الإسلام اصطدم بالصهيونية، ("فهذه البلاد العربية الإسلامية لا تعاني من الفقر أو المرض أو الأميَّة أو الاستغلال؛ إنها تعاني من أسوأ الآفات: الإسلام.
وحيثما يحكم علم النفس الإسلامي، هناك حكم لا مفر منه للاستبداد والعدوان
الإجرامي.
الخطر يكمن في علم النفس الإسلامي، الذي لا يستطيع أن يندمج في عالم الكفاءة والتقدم، يعيش في عالم من الوهم، مضطرب من عقد النقص وجنون العظمة، الضائعة في أحلام السيف المقدس.
ينبع الخطر من المفهوم الشمولي للعالم، والشغف بالقتل المتجذر بعمق في دمائهم، ومن الافتقار إلى المنطق، والعقول التي تتأجج بسهولة، والتباهي فوق كل شيء بالتجاهل لكل ما هو مقدس في العالم المتحضر.
ردود أفعالهم على أي شيء، لا علاقة لها بالحس السليم.
إنهم عاطفيون وغير متوازنين ولحظيون ولا معنى لهم دائماً والمجنون هو الذي يتكلم من حنجرته. يمكنك التحدث "عن العمل" مع الجميع حتى مع الشيطان ولكن ليس مع الله.
هذا ما تصرخ به كل حبة قمح في هذا
البلد.
كانت ثمة ثقافات عظيمة هنا، والغزاة من جميع الأنواع – حتى الصليبيين – وكلهم تركوا علامات الثقافة والازدهار. ولكن على طريق الإسلام ماتت حتى الأشجار. - يتوافق هذا تماماً مع ملاحظات وايزمان حول "الإهمال" في فلسطين؛ ويفترض المرء أنه عندما كان وايزمان يكتب لاحقاً كان سيقول أشياء مماثلة لكارليباخ-.
إن الحقيقة ليست في اختزال النقاش أولا وقبل كل شيء في صراع حدودي بين إسرائيل وجيرانها. فجوهر الصراع ليس في مسألة الحدود؛ إنما هي مسألة علم النفس الإسلامي.
علاوة على ذلك، فإن عرض المشكلة على أنها صراع بين جزأين متماثلين هو بمثابة تزويد العرب بسلاح ادّعاء ليس من نصيبهم.
وإذا كان الحديث معهم سياسيا حقا، فهو ظاهر من الجانبين.
ثم نظهر كأولئك الذين أتوا إلى بلد كان عربيا بالكامل، واحتللناه وزرعنا أنفسنا جسما غريبا فيه، وحملناه باللاجئين وشكلنا خطرا عسكريا عليه، إلخ...." ويمكن للمرء أن يبرر هذا الجانب أو ذاك على حسابنا في مثل هذا العرض المتطور والسياسي للمشكلة والمفهوم من لدن العقول الأوروبية. ويطرح العرب ادعاءات منطقيَّة للفهم الغربي للنزاع وببساطة قانونيَّة.
ولكن في الواقع، من يعرف أفضل منا أن هذا ليس هو مصدر موقفهم العدائي؟، كل تلك المفاهيم السياسية والاجتماعية ليست لهم أبدا، فالاحتلال بقوة السلاح (...) لا يرتبط كله بالظلم. بل على العكس من ذلك، هو يشكل شهادة وإثباتا للملكية الحقيقية. إن حزن اللاجئين، والإخوة المطرودين، ليس له مكان في تفكيرهم. فلقد طردهم الله، وسيهتم بهم الله.
لم يسبق لأي سياسي مسلم أن تأثر بمثل هذه الأمور - إلا إذا كانت الكارثة قد عرضت وضعه الشخصي للخطر- ولسان حاله يقول لو لم يكن هناك لاجئون ولا غزو، لكانوا عارضونا بالطريقة نفسها.
ومن خلال النقاش معهم على أساس من المفاهيم الغربية، يلبس المتوحشون ثوب العدالة الأوروبي!.).
الدراسات الإسرائيلية حول "المواقف العربيَّة"، مثل الدراسة التي أجراها الجنرال هركابي، لا تهتم بتحليلات مثل هذه، والتي هي أكثر سحرا وعنصرية من أي شيء يمكن أن يواجهه أي فلسطيني.
لكن تجريد العربي من إنسانيته، والذي بدأ بنظرة مفادها أن الفلسطينيين ليسوا موجودين أو انهم متوحشون أو هما معا، يشمل كل شيء في المجتمع الإسرائيلي.
لم يكن من غير المعتاد خلال حرب 1973 أن يصدر الجيش كتيباً -مع مقدمة بقلم الجنرال يونا إفراتي من القيادة المركزية- كتبه حاخام القيادة المركزية، أبراهام أفيدان، يحتوي على المقطع الرئيس الاتي: "عندما تواجه قواتنا مدنيين أثناء الحرب أو في أثناء مطاردة أو غارة، يجوز قتل المدنيين الذين تتم مواجهتهم.
وفقا لمعايير الهالاخاه، حتى عندما لا يمكن التأكد من أنهم غير قادرين على الرد علينا، تحت أي ظرف من الظروف. فهل ينبغي الوثوق بالعربي، حتى لو أعطى الانطباع بأنه متحضر".
وفي أدب الأطفال، اليهود شجعان وينتهي بهم الأمر دائماً إلى قتل العرب الوضيعين الخونة، بأسماء مثل مسطول (مجنون)، باندورا (طماطم)، أو بوكرا (غداً).
وكما قال كاتب في صحيفة هآرتس 20 سبتمبر 1974، فإن كتب الأطفال "تتناول موضوعات: العربي الذي يقتل اليهود بدافع المتعة، والصبي اليهودي النقي الذي يهزم "الخنزير الجبان".
وتقتصر الأفكار الحماسية على المؤلفين الذين ينتجون كتبا للاستهلاك الشامل؛ وكما سأبين لاحقاً، فإن هذه الأفكار مستمدة بشكل أو بآخر منطقيا من مؤسسات الدولة نفسها، والتي فضلا عن جانبها الآخر (الخير)، فإنَّ على عاتقها تقع مهمة تنظيم الحياة اليهودية بشكل إنساني.
هناك أمثلة أنموذجيَّة لهذه الازدواجية في وايزمان، الذي وجدت مثل هذه الأمور طريقها على الفور إلى السياسة والعمل والنتائج التفصيليَّة.
إنّه معجب بصموئيل بيفسنر باعتباره "رجلا يتمتع بقدرة كبيرة وحيوي وعملي وواسع الحيلة وهو مثل زوجته متعلم تعليما عاليا. لا يمكن للمرء أن يكون لديه مشكلة مع هذا. ثم يأتي على الفور ما يلي، من دون أي انتقال.
"بالنسبة إلى هؤلاء الأشخاص، كان الذهاب إلى فلسطين بمثابة الذهاب إلى البرية الاجتماعية، وهو أمر يجب أن يتذكره أولئك الذين يتوجهون إلى فلسطين اليوم، ويجدون فيها موارد فكرية وثقافية واجتماعية ليست أقل شأنا من تلك الموجودة في العالم الغربي".
لقد كانت الصهيونية في المقدمة، وكل شيء آخر كان في الخلفية، وكان لا بدَّ من إخضاعه وقمعه وخفضه كي يظهر إنجازها الثقافي في المقدمة على أنّها "عمل حضاري رائد".
وقبل كل شيء، النظر إلى العربي الأصلي على أنه نقيض لا يمكن علاجه، شيء مثل مزيج من الهمجي والإنسان الخارق، وعلى أي حال كائن من المستحيل (وغير المجدي) أن نتصالح معه. العربي مناظر ماهر ومثير للجدل – أكثر بكثير من الأوروبي المتعلم الاعتيادي – وإلى أن يكتسب المرء هذه البراعة، فإنه سيكون في وضع سيئ للغاية.
وعلى وجه الخصوص، أن العربي يتمتع بموهبة هائلة في التعبير عن وجهات نظر تتعارض تماما مع آرائك بمثل هذا الأدب الرائع الالتفافي الذي تعتقد أنه متفق معك تماماً، ومستعد للتعاون معك في الحال.
إنَّ المفاوضات مع العرب لا تختلف عن مطاردة سراب في الصحراء: مليئة بالوعد وحسن النظر، ولكنها قد تؤدي إلى الموت
عطشا".
سؤال مباشر خطير قد يثير لدى العربي انسحابا ماهرا وتغييرا كاملا للموضوع ويجعل التعامل مع المشكلة عن طريق اللف والدوران، يستغرق وقتاً لا نهاية له للوصول إلى نواة الموضوع).