تقنيات السينما الهوليوديَّة في الخديعة

منصة 2024/05/20
...

 أشواق النعيمي

يسعى دان براون في روايته {حقيقة الخديعة} إلى إماطة اللثام عن الجانب الخفي لوكالة ناسا التي طالما استنزفت أموال دافعي الضرائب، والكشف عما يدور خفاءً في دهاليز البيت الأبيض وغرفه السريَّة، وفي الصفحات ما قبل الأخيرة تتجلى الحقيقة، حقيقة الخديعة التي تنهار على إثرها السلالم التي رصفها خيال القارئ وهو يتسلق صعوداً باتجاه النهاية المتوقعة، مستنداً على أوهام صنعها المؤلف بأسلوبه الفلسفي، المعزز بالحقائق والوثائق والأدلة التي تدين في الظاهر أصحاب القرار.


تدور كاميرا الرواية بين قفار القطب المنجمد الشمالي، وأمواج المحيط الأطلنطي الغاضبة لتصوير لقطات تأخذ القارئ وسط مشاهد سرديَّة تمتاز بالإثارة والتشويق والدقة الوصفيَّة لتفاصيل الحركة، وكثافة الحدث والأسلوب البوليسي الذي يشعر القارئ بأنّه يتابع عرضاً سينمائياً هوليودياً بامتياز. 

لا بدَّ من الإشارة إلى أن بعض روايات المؤلف قد تحولت إلى أفلام سينمائيَّة لعل أهمها "شفرة دافينشي"، ورواية "ملائكة وشياطين" الأمر الذي يبرر أسلوب براون في كتابة روايات طويلة أقرب ما تكون إلى السيناريو الفيلمي الجاهز، ومنها رواية "حقيقة الخديعة".

تستهل الرواية بمقدمة أكشن تحدث بين تلال جليد المنجمد الشمالي، مشهد قتل عالم الجيولوجيا الكندي وكلاب الأسكيمو الأربعة التي كانت تسحب مزلجته، تتوجه البؤرة الصوريَّة إلى حوامة تهبط محدثة رذاذا متطايرا من الجليد، تتحرك الكاميرا عرضيا لتنقل صورة حسيَّة لكلاب الأسكيمو وهي تنبح بخوف وعيونها معلقة نحو الأعلى، يُجبر العالم وكلابه على صعود الحوامة وحين تصل إلى ارتفاع أربعة آلاف متر ومن خلال عدسة ـ عين الطائر ـ تفتح بوابتها ليرمى العالم الكندي مع كلابه فوق الصدوع الجليديَّة المميتة. 

يمثل الصراع الرئاسي الأميركي المحور الذرائعي للحبكة الروائيَّة.

فالطريق إلى البيت الأبيض ليس سهلا في ظل ضغوط شعبيَّة واسعة تضعف فرص الرئيس الحالي "زكارني هيرني"، مقابل المرشح الأقوى حظا "السيناتور سنيجويك سيكستون". 

العودة إلى مكتب الرئاسة يحتاج إلى نصر مزلزل، يعيد ثقة الشعب بسياسة البيت الأبيض ووكالة الفضاء الأمريكية مهما كلف الثمن، ومن هذا المنطلق كانت الخديعة ذكية محكمة الإتقان، فمن ذا الذي يشك في أقمار ناسا وهي ترصد حجراً نيزكياً مدفوناً في أعماق المنجمد الشمالي، تكشف الأبحاث أنّه يضم مستحثات لحشرات فضائيَّة لا تشبه أي حشرة وجدت على سطح الأرض، تقدم تلك المستحثات دليلاً دامغاً على وجود حياة خارج كوكب الأرض قد تعود لملايين السنين. 

تصور الأحداث من منظور الشخصية البطوليَّة "راشيل سيكستون" ابنة المرشح الرئاسي والعميلة الاستخباراتية التي أرسلها الرئيس لاستقصاء صحة المعلومات التي وردت حول الحجر النيزكي، يتحرك المشهد من نقطة مكانية إلى أخرى صعودا ونزولا، قربا أو بعدا مع حركة الشخصية، تقترن تلك الحركة بسرد مفصل لماهية ومؤثثات كل نقطة ضمن سياقها الدرامي.

وكأي فيلم سينمائي من أفلام الأكشن الهوليوديَّة، لا بدَّ من وجود صراع دموي بين قوى غير متكافئة، اختار براون منح روايته مسحة واقعيَّة يزج فيها بمنظمات حكومية، يعترف في مستهل الرواية أنها موجودة فعلاً على أرض الواقع وهي "مكتب الاستطلاع القومي" و "دلتا فورس" التي يحملها مسؤولية تلفيق خدعة الحجر النيزكي، وكل المطاردات والجرائم التي ارتكبت للتغطية على تلك الخديعة وأهمها تصفية العالم الكندي الذي كشف وجوده المزيف في الرف الجليدي، وعدد من المهام العسكرية السريَّة التي يتم فيها استخدام أسلحة هولوغرافية خادعة.

وبالعودة إلى الصراع الرئاسي الذي يقسم بموجبه المؤلف روايته إلى فصول متسلسلة، تتناوب بين مشاهد راشيل، ومشاهد المرشح الرئاسي السيناتور سيكستون وسكرتيرته من منظور السارد العليم لرصد البعد الثلاثي "الجسدي والنفسي والاجتماعي" للشخصيتين.

في حين ينتقل السارد العليم بعدسته بين المشهد العام ووضع الزووم في مشاهد راشيل لتصوير الشخصية من بعديها الجسدي والنفسي، وما تثيره في القارئ من دهشة وترقب "تاهت أفكار راشيل عند رؤيتها مشهد طلوع الشمس العجيب، ولم يتسنَ لها أن تدرك أنهم متجهون تماما إلى الاتجاه الخاطئ إلا بعد أن مرت المروحيَّة في خليج شيسبيك، وعندها تحول الارتباك الذي شعرت به في البداية إلى خوف مروع 

حالاً". 

تتسع عدسة السرد أفقيا في حوار المرشح الرئاسي "سيكستون" مع عدد من المستثمرين، وتكشف عن نوع من المهام السريَّة للقوات الأمريكية الخاصة، وتسلط الضوء على الفساد 

الإداري لوكالة ناسا، وتأثير أفلام هوليود في صناعة الوهم وتضخيم دور الوكالة لخداع المستثمرين. 

من أبرز سمات هذه الرواية أنها تتيح للقارئ فرصة المشاركة في إخراج بعض اللقطات وإدارة عدسة التصوير من وجهة نظره الخاصة تجاه بعض الشخصيات. 

تتسارع وتيرة الأحداث وتزداد تشويقاً في الفصول الأخيرة، تضيق دائرة الموت حول راشيل وفريقها الذين اكتشفوا خدعة الحجر النيزكي. 

تتحرك الكاميرا في مختلف الاتجاهات لرصد القتال الدموي الشرس مع أفراد من دلتا فورس فوق سفينة تطفو في مكان ما على سطح المحيط.