في وداع جينين

الصفحة الاخيرة 2024/05/20
...

عبد الهادي مهودر



ختمَت رئيسة بعثة الأمم المتحدة في العراق أيامها الأخيرة وشهرها الأخير بإحاطة أخيرة أمام مجلس الأمن الدولي، خالفت فيها المثل العراقي الشائع (يمغرّب خرّب) وقالت، "إنَّ الصورة التي أود أن أصفها هي لعراق يبدو مختلفاً عمّا كان عليه قبل عشرين عاماً واليوم نشهد، عراقاً ناهضاً"، وفي معرض إشادتها بجهود الحكومة العراقيَّة، أبدت خوفها من حرب غزة على استقرارنا الذي تحقق بشق الأنفس، مع فارق أن الضربات والهجمات والتصعيد وإصابة الناس التى تقصدها محصورة بالعراق فقط ، فالمرأة مثل أي سياسي غربي ينتقد التصعيد والقتل والدمار في كل العالم إلّا في مدينة غزة، لكنها معنية بالعراق وملتزمة بمهمتها التي حددها السيد غوتيريش الذي قال في غزة مالم يقله الشقيق، وفي جميع الأحوال، فقد أصبحت بعثة الأمم المتحدة من الماضي مهما طال زمن بقائها، وطالب رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، في رسالة وجهها إلى الأمين العام للأمم المتحدة بإنهاء ولاية (يونامي) بحلول نهاية عام 2025.

والحق يقال فإنَّ جينين هينيس بلاسخارت التي تودّعنا لم تترك ركناً يعتب عليها في العراق، فقد جالت في البلاد طولاً وعرضاً ومشت على حلِّ شعرها تارةً وبالخمارِ الأسودِ تارةً أخرى، وعرفت مزاج العراقيين في السنوات الخمس التي رأست فيها بعثة (يونامي) ونجحت في فهم ودغدغة مشاعر العراقيين وأدركت نزعتهم الفيسبوكيَّة، وتيقّنت من حبنا لثلاث، الطعام والراتب والطشة، فركبت التكتك وتذوّقت الدهينة النجفيَّة وأكلت في مطاعم بغداد الراقية والشعبيَّة وتناولت السمك والدليميَّة في مضايف الجنوب والدليم وتفسّحت في هضبات العراق وشطيه والجرف والمنحنى، وهي التشرينيَّة في تشرين والعاشورائيَّة في عاشوراء والهولنديَّة في عيد المرأة، وليس عجباً أن تقول في آخر سطر بإحاطة الوداع (لقد أصبح العراق ببساطة جزءاً منّي وعاش العراق) فقبلها قالتْ "ميس بيل" في رسالة إلى والدها في انكلترا إنّها لم تكن سعيدة بحياتها الارستقراطية لكنّها سعيدة هنا في بغداد، وجميع مبعوثي الأمين العام خرجوا سعداء من بغداد إلا المرحوم الدكتور سيرجيو ديمللو الذي قتل في بغداد، وقبلها أحب سلاطين الدولة العثمانية والجنرال مود، وبول بريمر العراق، ولم يودّع البلاد إلا بعد جولة في الطائرة لإلقاء النظرة الأخيرة على حقول العنبر في قضاء المشخاب، هل فعلاً أحبّوا العراق أم أنّها كلمة تقال في أتكيت الوداع؟، وقريباً من هذا السؤال كنا مرة ننتظر مسؤولاً ليترأس جلسة لكن أمراً ما شغله فاِعتذر عن الحضور وأناب عنه معاونه المخلص ليتحدث بالنيابة، فقال أيّها الحضور الكريم إنكم لا تعلمون كم يحب العراق، يموت على العراق، والعراق نصب عينيه وليس في قلبه سوى عراق، وانتهت الجلسة ولم نفهم شيئاً، وهل الغريب أن يحب المسؤول العراقي بلاده، في وقت اِدّعى حتى الغزاة وقوعهم في حبه بعدما أذاقوه عذاب الحب.