سلام مكي
خمس سنوات مضت على صمته الأبدي، فوزي كريم، الشاعر والناقد الاستثنائي والموسيقي، صاحب القلب الذي لا يكف عن التفكير، مهما اضطرب. مرّت قبل أيام ذكرى وفاته في منفاه اللندني، حيث كان يقضي حياته بين التفكير والتدوين لأهم وأبرز فكر نقدي للشعر العربي.
كان صاحب مشروع نقدي متفرد، إذ استهدف البنية الموضوعية للشعر العربي، وشخّص الهوية العامة لذلك الشعر، بوصفه أيقونة التراث الثقافي العربي وهويته التاريخية التي يباهي بها الأمم.. كان ينطلق بنقده للشعر العربي، من قناعته الرئيسة بأن للشعر وظيفة مهمة ومحورية، لا يمكن للشاعر أن يتخلى عنها وهي التعبير عن الذات، والانتصار لشخص الشاعر، كان يرى في الشعر فرصة للتفكير المؤطر بقوالب يصنعها الشاعر بنفسه، ويتفرد بها أيضا.. كان يرى أن جودة القصيدة في مدى تعبيرها عن عمق تجربة الشاعر، فيقول في كتابه " ثياب الامبراطور": أعترف بأني لم أفكر يوما بالحداثة معيارا لصلاحية القصيدة وجودتها، ولا حتى بالجدة. كنت أفكر بالحداثة على أنها صفة انتساب لعصر.، وليست كمعيار قيمة. معيار القيمة لدي هو تفرد الشاعر في انصرافه لتجربته الروحية. وصدق وعمق هذه التجربة، هما اللذان يولدان الشكل الصادق والعميق. والمشاعر هي التي تتشكل شعريا وهي بجمالها تولد الشكل الجميل. وبجدتها تولد الشكل الجديد".
إن تفرّد فوزي كريم في نظرته النقدية، للشعر العربي برمّته، جعلته يتخذ موقفا مختلفا إزاء التجارب الشعرية الرائدة سواء المعاصرة أو القديمة، فكان يرى أن الشاعر العربي، تحوّل إلى أداة تستخدمها القبيلة في حروبها مع أعدائها، وإلى مدوّن لتاريخها، وغالبا ما يعمد الشاعر إلى تزيين وتلطيف ذلك التاريخ، في محاولة منه لمنح قبيلته مجدا على حساب باقي القبائل. ومن هنا، تم تغييب التجربة الروحية للشاعر العربي، فلا أثر لتجربة الشاعر الداخلية في شعره إلا نادرا، لذلك كان يرى في أبي نوّاس أكثر حداثة من شعراء معاصرين، ذلك أن ابن هانئ كان يدوِّن تجربته الحياتية شعرا، ويكتب ما هو وليد اللحظة.
الغرض الشعري الذي يمثل السمة البارزة للشعر العربي هو عنوان رئيس لما وصلنا من ذلك الشعر، وحين نقول غرضا شعريا، فإننا نكون أمام فكرة معدّة مسبقا، فكرة موجودة معاشة، لا علاقة لها بتجربة الشاعر الخاصة، الشاعر يأتي فقط ليدونها على شكل قوالب وزنية ثابتة.
كان فوزي كريم يؤمن بما يسميها "القصيدة الحائرة"، تلك التي تبدأ من لحظة تفجّر روحي للكاتب، ولا تنتهي إلا بمجهول! فالكاتب لا يأخذ القصيدة حيث يريد، وإنما القصيدة هي التي تأخذه حيث تريد، فيقف عندما يستفيق من غيبوبته الشعرية! والقصيدة الحائرة، أصدق ما يكتبه الشاعر، عن تجربته الخاصة، ومن خلالها يمكن الولوج إلى العوالم الخفية للشاعر.
القلب عند فوزي كريم، متعدد الأغراض، فهو يفكّر أيضا، يفكر حين يكتب القصيدة التي ما عدت مجرد لحظة عابرة، أو حالة شعورية، بل هي فكرة يبلورها الشاعر في قالب معين. والفكرة مثل المتاهة عنده، لا قرار واضحا لها، يسكبها الشاعر على الورق، ولا يعرف متى ينتهي السيل.
إن حياة المنفى التي شكّلت أغلب سني حياته، كانت دافعا له، لأن يعيد صياغة مفهوم نقدي جديد للشعر العربي، فهو إن أشكل على الشعر العربي القديم، الغرضية، فإنه أشكل على شعراء معاصرين، أنهم يكتبون تحت راية! فهنالك شاعر الراية الذي يكتب تحت راية ما، أما راية الحزب أو القومية أو حتى الطائفية، وهنالك شاعر المتاهة الذي
يخلق من تجربته الروحية راية خاصة به. فشاعر الراية هو ذاته الشاعر الذي يكتب وفقا للأغراض الشعرية من مدح وفخر وهجاء.
فكان مشروعه النقدي الذي تمثل بثلاثيته " الشعر ومرايا الحداثة الخادعة والقلب المفكر. الشعر يغني ولكنه يفكر أيضا وشاعر المتاهة وشاعر الراية.. الشعر وجذور الكراهية"، أهم وأعمق مشروع نقدي عربي، مثّل انعطافة في رؤية الشاعر لتراثه النقدي، ومحاولة التماس عوامل مشتركة بين زمنين متباعدين، لكن يجمعهما سور من الأفكار والأطر التي سعى فوزي إلى هدمها ليكون شاهدا على ولادة شعر خالٍ من أمراض التشتت الذهني والتغييب القسري لذات الشاعر.
لقد غاب فوزي كريم، مرات عدة،
كان آخرها عام2019 في 17 /5 .. وهو
رحيله الأخير، وقبلها غاب عن وطنه، ومرة عن ذاكرته التي لم تأخذ نصيبا من
الحياة سوى الشعر! وغيبته المزمنة عن الذاكرة الثقافية التي لم تعطه حقه في الاستذكار.