الوائلي يصف بعضنا

الصفحة الاخيرة 2024/05/26
...

محمد غازي الأخرس
مثيرة للانتباه هي الحكمة أو الخلاصة التي سمعتها مؤخراً من الراحل الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله، ودأب الرجل هذا؛ في محاضراته، غالباً ما يقدّم خلاصات ذات طابع حكيم يخلص إليها من قراءاته في التاريخ والفكر، وتجاربه في الحياة، ثم يتفضّل بها هديَّةً لا أروعَ منها، تبقى في الذهن والروح طويلاً، خصوصاً أن للرجل طريقة لا تتكرر وأسلوباً أدائيَّاً تفرّد به.

في الخلاصة التي سمعتها مؤخراً يقول: "الإنسان المريض نفسيَّاً كلما تكثف عليه العطاء، شكد تعطيه مثل العقربة تزيدها سم، تنبه لي، أكو بعض الناس إذا أعطيته، انتظر منه يلدغك، انتظر منه أن يلذعك، لأنّه مو سوي، مو مخلوق طبيعي، يبدأ يشعر بنقص".

فكرة رائعة ومتداولة في ثقافتنا الاجتماعيَّة، واستعارة فعل اللدغ الذي يقوم به العقرب جاء بمكانه من باب أنَّ الانسانَ الجاحد وناكر الجميل يبدو كالعقرب فعلاً، فهو غادر ويأتيك منه الأذى من حيث لا تحتسب.

مثل هذا الأنموذج من الناس موجود في مجتمعنا منذ أن عرف الغدر والطعن في الظهر. 

العرب تقول؛ اِتَّقِ شَرَّ من أحسنتَ إليه، وشّرُّ من تُحسِنُ إليه غالباً ما يكون أعظم من الشرِّ الآتي ممن لم يتلقَ منك الإحسان، ولعل الشرَّين أهون بما لا يقاس مما يمكن تلقيه من خصمك، خصوصاً حين يكون فارساً في الخصومة. 

هنا تكمن الدلالة الحقيقيَّة لفكرة تمرّد بعض متلقي الإحسان، من ناحية أنّهم  مفتقدون لصفة الوفاء أو الشكر، في الأمثال يقولون: مجدي وخنجره بحزامه، أي أنّه جبّار وصلف رغم احتياجه للآخرين، لهذا ما إن ينال نصيبه منهم حتى يتمرّد عليهم بدل أن يشكرهم، ورحم الله المتنبّي الذي اختصر كل هذا بقوله: إِذا أَنتَ أَكرَمتَ الكَريمَ مَلَكتَهُ.. وَإِن أَنتَ أَكرَمتَ اللَئيمَ تَمَرَّدا.

وتفسير ذلك أن اللئيم إنّما ينطلق في تمرّده من حيث كونه ضحية شعوره بالنقص تجاه من يُكرمه. 

هنا يمكن القول أنَّ العقدة تتحرّر عبر إخراج أسوأ ما في نفس ضحيتها، ومن ذلك نكران جميل المحسن أو محاولة إيقاع الأذى المادي أو المعنوي به.

أي أنّ المعقد المذكور يفتقر لما عند المحسن من علو نفس أو غنى مادي، لهذا يحاول أذيته، وهو إذ يفعل ذلك، إنّما يحاول الانتقام لنفسه الصغيرة، الشاعرة بالضآلة، والتي يتضاعف شعورها هذا مع كلِّ عطية تتلقاها من المحسن، لهذا يقول الوائلي: 

إنَّ بعض الناس "إذا أعطيته، فانتظر منه أن يلدغك"، لأنّه ليس إنساناً سويَّاً، بل مخلوق مريض نفسيَّاً.  

هل ينطبق هذا على الأفراد فقط؟

كلا، ففي بعض الحالات قد تُصاب الجماعات والأمم بهذا المرض اللعين، وهناك أمثلة وقرائن لجماعات عايشناها واستغربنا من لدغها لأمم أخرى أحسنت إليها، ولولا خشيتي من الرجم والملامة لفصّلتُ في الحديث عن بعضها، فرحم الله الوائلي كم كان حكيماً.