إنجازات رئيسة سنغافورة .. بين التهويل والحقيقة

آراء 2019/06/10
...

د.حسن الياسري
ليس بخافٍ على أحدٍ ما لوسائل الإعلام المختلفة ووسائل التواصل الاجتماعي من تأثيرٍ بالغٍ في حياة الناس ، وعلى مختلف الصعد ! وقد يكون ذلك أمراً حسناً حينما تقوم هذه الوسائل بخدمة الإنسان معرفياً ، عبر نقل المعلومة الصحيحة ، والحقيقة الناصعة ، فتكون آنئذٍ نعمةً !! بيد أنَّ هذه النعمة قد تحولت إلى نقمةٍ ، عندما بدأت بعض تلك الوسائل بتزييف الحقائق ، وافتراء الأكاذيب ؛ لأسبابٍ شتى ، لقد تفاقمت هذه الظاهرة في الآونة
 الأخيرة ، ليس على مستوى العراق فحسب ، بل على المستويين العربي والعالمي ، إلّا أنَّ الفرق بين العراق وتلك الدول ، يتمثل بوجود مؤسساتٍ في تلك الدول ، سواءٌ أكانت حكوميةً أو إعلاميةً مستقلةً ، تأخذ على عاتقها مهمة الرد على تلك الأكاذيب وإيضاح الحقيقة ، وتستعين هذه المؤسسات في العادة ببعض الخبراء المختصين ، كلٌ في مجاله ، كي يأخذ الرد والإيضاح المحتوى العلمي التخصصي . وللأسف الشديد لا وجود لمثل هذه المؤسسات في العراق ، كما لا وجود لمن ينبري لأخذ هذا الدور بشكلٍ منهجيٍ من الفضائيات والمؤسسات الإعلامية وغيرها ، على الرغم من وجود عشرات البرامج المكررة غير المجدية في تلكم الفضائيات !! ولا تبقى بعد ذلك سوى بعض الجهود الفردية لهذا وذاك للرد وإيضاح الحقيقة !!! وفي سياق ما تقدم ، فقد انتشرت في بعض المواقع الالكترونية والقنوات العربية معلوماتٌ ومقاطع فيديويةٌ عن انجازاتٍ كثيرةٍ وعملاقةٍ تُنسب الى رئيسة سنغافورة الحالية السيدة (حليمة يعقوب) ، من قبيل قيامها بزيادة الناتج القومي بأكثر من خمسة تريليون دولار ، وارتفاع دخل المواطن الى اكثر من 85 ألف دولار سنوياً ، وتخفيض نسبة البطالة الى واحد بالمائة ، وإنجاز عشرة آلاف مشروع ، وتخفيض نسبة الفساد الى صفر بالمائة ، والارتقاء بالجواز السنغافوري ليكون الأغلى والأقوى في العالم ، وإلغاء الضرائب المفروضة على كاهل المواطنين ، وو الخ .. وبالنظر لأهمية هذه المعلومات ، ولإنتشارها ، وروماً للحقيقة ، ولئلا يغترَّ الناس بأكاذيب وأوهام ، ولكي لا يصدقوا كل ما يسمعونه أو يشاهدونه ، ولكوني مهتماً بوضع سنغافورة ، بوصفها احدى الدول المتقدمة في مكافحة الفساد ؛ لذا أجد من الضروري إيضاح حقيقة هذه المعلومات .. وببساطةٍ أقول إنّ هذه المعلومات ، سواءٌ أكانت اخباريةً أم فيديويةً ، لا تمثل الحقيقة ، ولا تعدو عن كونها أكاذيب ساقتها بعض المواقع وبعض القنوات العربية ، بمجرد سماعهم أنّ امراةً محجبةً أصبحت رئيسةً لسنغافورة !! والدليل على كذب هذه المعلومات ، ما يأتي :
1 - انّ السيدة ( حليمة يعقوب) رئيسة سنغافورة الحالية قد أصبحت رئيسةً في أواخر عام 2017. والكل يعلم باليقين أنّ نهضة سنغافورة الكبرى قد بدأت في ثمانينيات القرن الماضي على يد مهندس نهضتها السيد ( لي كوان يو) .. وقد وصلت هذه النهضة الى قمتها في نهاية العقد الثمانيني .. ومن ثم فإنّ السيدة (حليمة يعقوب ) التي تسنمت الرئاسة قبل عام ونصف العام تقريباً لا علاقة لها البتة بنهضة سنغافورة ، لا من قريبٍ ولا بعيدٍ !!!
2 - انّ طبيعة النظام الدستوري في سنغافورة هي طبيعةٌ برلمانيةٌ ، وهي تكاد تكون صورةً مستنسخةً عن النظام البرلماني البريطاني ، كون سنغافورة متأثرةً ببريطانيا المحتلة لها سابقاً .. نعم هي جمهوريةٌ ، وليست ملكيةً كبريطانيا ، ما يجعلها تقترب من هذه الناحية من النظام الدستوري العراقي. وبمقتضى القاعدة العامة في النظام البرلماني تكون الصلاحيات التنفيذية بيد الحكومة ورئيسها - رئيس الوزراء - ، ولا تعدو صلاحيات رئيس الدولة عن كونها تشريفيةً احتفاليةً . وهو ما عليه الحال في سنغافورة ، إذ الصلاحيات الحقيقية تكون بيد الحكومة السنغافورية ورئيسها - رئيس الوزراء - ، أما رئيس الجمهورية فصلاحياته تكون تشريفيةً بروتوكوليةً لا أكثر !!!
3 - فهل يعلم أولئك الذين فبركوا هذه المعلومات أنّ السيدة (حليمة يعقوب) هي رئيسة الجمهورية وليست رئيسة الوزراء ، ومن ثم لا صلاحيات تنفيذية لها . فكيف استطاعت والحال هذه في غضون عام ونصف تحقيق كل هذه الإنجازات الضخمة وهي لا تمتلك الصلاحيات لإنجازها 
بالأساس !!!
وهنا أعود للحديث عن مهندس وراعي نهضة سنغافورة ، وهو السيد ( لي كوان يو )، فهل يعلم أولئك الذين فبركوا هذه المعلومات أنه لم يكن رئيس جمهورية سنغافورة ، بل كان رئيس الوزراء !!! وهل يعلم أولئك اسم رئيس الجمهورية في عهد السيد ( لي) ؟؟ إنه السيد ( يوسف بن إسحاق) !! وأكاد أجزم أنهم لم يسمعوا باسمه ، رغم انه كان أول رئيس للدولة بعد الاستقلال ، كما كان ( لي ) اول رئيس وزراء !!! لكن الشهرة ذهبت للثاني دون الأول ، لكونه صاحب الصلاحيات 
والإنجاز .
4 - انّ رئيس الجمهوربة في سنغافورة يتم اختياره عبر الانتخابات المباشرة ، ولكن السنغافوريين أرادوا هذه المرة أن يعطوا الفرصة لأقلية الملايو في سنغافورة  للمشاركة في الحياة العامة ، التي يسيطر عليها العرق الصيني ، فجاؤوا بحليمة يعقوب ومنحوها هذا المنصب – الشرفي - دون أن تخوض الانتخابات البتة ، إرضاءً لأقلية الملايو.
5 - ومن هنا يتبين كذب المعلومات المنشورة حول الموضوع ، وأنّ السيدة (حليمة يعقوب) لا علاقة لها بزيادة الناتج القومي ، أو تخفيض نسبة البطالة ، أو زيادة دخل المواطن ، أو إنجاز عشرة آلاف مشروع  وغير ذلك من الإنجازات الكبيرة المزعومة ..
6 - وكذا لا صحة للمعلومة الواردة بكون الجواز السنغافوري هو الأقوى في العالم ، فهذا الجواز وإنْ كان قوياً ، لكنه ليس الأقوى ، فهنالك دولٌ عديدةٌ جوازها أقوى من الجواز السنغافوري .. وايضاً لا صحة للمعلومة حول نسبة الفساد في سنغافورة وكونها صفراً ، وأنّ هذا البلد هو الأفضل في النزاهة ، إذ هنالك مجموعة دول تتصدر مؤشر النزاهة وتتقدم على سنغافورة بمراتب ، دون أن يهدر ذلك من قيمة هذا البلد الذي يتبوأ مواقع متقدمة في مؤشر النزاهة ، لكن الحديث عما اذا كان هو الأفضل والأول أو لا ، وقد عرفت 
الحقيقة !!
7 - بطبيعة الحال يشعر المسلم بالفرح عندما يسمع تبوأ مسلمٍ أو مسلمةٍ سدة الحكم في دولةٍ  هي ليست بالأساس من الدول المسلمة ، لكن ذلك لا يبرر سوق الأكاذيب والافتراءات ، كما يفعل ذلك الذين فبركوا هذه المعلومات !!
ولربما تكون عقدة الشعور بالنقص ازاء الآخرين هي السبب في سوق هذه الأكاذيب ، كما حدث سابقاً في وقائع متعددةٍ مشابهةٍ !!! إذ يعتقد بعض العرب أنّ أي عملٍ يقوم به الآخرون   – الأجانب – في دولهم الأجنبية يكون جيداً بنظر العرب ويتم تهويله ، وإنْ كان غير ذلك على وفق المعايير العامة ، وأنّ كل عملٍ – جيدٍ - يقوم به البعض – العرب - في داخل بلادهم العربية يكون سيئاً 
في نظرهم !
وبصرف النظر عن ذلك تبقى الحقيقة والخبر الصحيح في النهاية فوق الجميع ، ويبقى الكذب كذباً لا مبرر له البتة ، مهما تزيّا بزيٍ ، ومهما تقنعّ بقناعٍ !