التحليل الإدراكي للعقل الدبلوماسي الإيراني

ريبورتاج 2024/05/29
...

 جواد علي كسار
لم يكن هذا المقال على طوله سوى إشارة كبيرة وعلامة مكثفة للفت الأنظار إلى هذه المراجعة والقراءة التحليلية النقدية، التي يهمنا منها الكثير بحكم الجوار والمعايشة، وبتأثير مباشر للعوامل الجيوبولوتيكية والجيوستراتيجية، وما ينشأ عنها ويترتب عليها، أردنا لها أن تكون مقدمة للعودة إلى ما كتبه محمد جواد ظريف عن العراق، خاصة أن معرفته والاطلاع عليه تتسم بأهمية شديدة لأصحاب القرار، وجميع النخب المعنية بشأن البلد، كما سنرى في المقالات اللاحقة بإذن الله.
شاع في مواقع الإعلام الإيراني وانتشر على وسائل التواصل خلال الأسابيع الأخيرة، تسجيل مصوّر لوزير الخارجيَّة السابق محمد جواد ظريف عمّا أطلق عليها "الأخطاء الإدراكيَّة" التي تسكن العقل الإيراني، وتلقي بتبعاتها السلبية ليس على الدبلوماسية وحدها، بل تمتدّ لتشمل السياسة الخارجية برمتها. وكان أبرز ما تحدّث به من هذه الأخطاء في تكوين العقل ونسقيات التفكير السياسي، هو الشعور الذي يخالط صنّاع السياسة الخارجية، من أنَّ إيران هي "مركز مشروعية العالم ومرجع شرعيته"، ومن ثمّ فإنَّ أي فعل أو حدث، إذا لم نحضره أو نشارك فيه، فلن يتحقّق وإذا وقع وتحقق فلن يكون مشروعاً؛ وهذا خطأ إدراكي جسيم وخطير جداً بحسب الوزير ظريف.


منهج أم زلة لسان؟

هل كان كلام الوزير ظريف عن الخلل الإدراكي في العقل السياسي الإيراني، هو فلتة لسان أم تعبير عن منهج تحليلي؟. يعود كلام ظريف عن تشريحيات العقل الإيراني وحديثه عن أخطائه الإدراكية الكبرى، إلى ندوة عن جيوبولوتيك المنطقة الخليجية عقدتها صحيفة "اطلاعات" الطهرانية الشهيرة، ظهر يوم الأربعاء 1 أيار 2024م، ضمن فعاليات مرور أربعين سنة على تأسيس دار النشر التابعة لصحيفة "اطلاعات".

في هذه الندوة أكدّ الوزير ظريف الإشكالية الإدراكية، وخطورتها في السياسة العالمية برمّتها، عندما قال نصاً: "استنتاجي، أنَّ العالم كله يعاني إشكالية معرفية، ومن ثمّ فإنَّ الكثير من المشكلات تنشأ عن هذا الأمر".

وفي نطاق تشريحه لبُنية العقل السياسي الإيراني من زاوية أخطائه في الإدراك، تحدّث عن الخطأ الإدراكي الثالث، بقوله نصاً: "الخطأ الإدراكي الثالث الذي يرجع إلينا غالباً، هو: نفترض بأننا إذا ما اعترضنا على أمرٍ ما؛ فإنَّ ذاك الأمر لن يقع ولن يحصل؛ وذلك انطلاقاً من تصوّر تكوّن في عقلنا ونسق تفكيرنا، مؤدّاه: هل لهذا الفعل مشروعية أم لا؟ ولما كنا نحسب أنفسنا ونظن بأننا مركز مشروعية العالم ومرجع الشرعية فيه، فقد كانت النتيجة ضمن هذا التصوّر الإدراكي الخاص: إننا إذا لم نعطِ المشروعية لهذا الفعل (بالمقاطعة وعدم الحضور) فلن تكون له شرعية!"، ويستنتج ظريف: "وهذا خطأ إدراكي جسيم وخطير جداً".


خسارة بحر الخزر

ثمّ ينتقل إلى رصد الإخفاقات المتتالية في السياسة الإيرانية، المترتبة على هذا الخطأ، ويعطي لذلك أمثلة من أنَّ المقاطعة الإيرانية وعدم الحضور لم تحل دون وقوع الحوادث وتحقّقها، كما حصل مع الترتيبات الأمنية في منطقة الخليج مثلاً، إذ تمت تلك الترتيبات فعلاً على أساس حضور إسرائيلي مكثّف، مقابل حذف إيران وتصفير دورها في هذه الترتيبات، لتكون "إسرائيل" قد أحاطت إيران من فوقها ومن تحتها (يقصد من: أذربيجان والخليج).

بيدَ أنَّ المثال الأهمّ الذي قدّمه ظريف في الندوة بصفته خسارة بالمطلق لهذا التصوّر الإدراكي الخاطئ، الذي يظنّ فيه العقل الدبلوماسي الإيراني بأنَّ محض المقاطعة ومجرّد عدم المشاركة والحضور، تعطّل فعل الآخر وتمنع حصوله؛ هو خسارة إيران حقّها في بحر الخزر، بالمقارنة مع ما حصلت عليه بقية البلدان المشاركة من حقوق. يوضّح ظريف هذه الخسارة، بقوله: "قد كنّا نظنّ في وقتٍ ما، أننا إذا قاطعنا ولم نحضر (اجتماعات الدول الخمس المتشاطئة على بحر قزوين: روسيا، كازاخستان، أذربيجان، تركمنستان، إيران) فلن يقع شيء. لكن ما حصل فعلاً، أنهم قسّموا المجال البحري وانتهى كلّ شيء!".

يضيف وهو يكاد يصرخ في التسجيل المصوّر: "والآن، ليكن لديكم حجة حقوقية؛ اذهبوا إلى أي مكان شئتم، فأيّ محكمةٍ ستصغي لكم؟ ثمّ افترضوا إن وُجدت محكمة صغت إليكم، فمن الذي يعطيكم حقّكم؟!".


الكتاب الزلزال

كان يمكن أن نحمل ما عدّده ظريف من أخطاء إدراكية في العقل الدبلوماسي بل السياسي الإيراني، على فلتة لسانٍ عابرة وحماسة مؤقتة وحسب، اقتصرت على هذه الندوة وحدها، لاسيّما أنَّ النص المكتوب لحديث ظريف نُشر في أكثر من موقع ومكان (وكالة ايسنا الطلابية، موقع خبر آنلاين، موقع جماران، صحف: هم ميهن، اعتماد، شرق وغيرها) وقد حُذفت منه، جملة: "نظنّ نحن أننا مركز مشروعية العالم، فإذا لم نعطِ الشرعية لفعلٍ، فإنَّ ذلك الفعل لن يحصل. وهذا خطأ إدراكي جسيم وخطير للغاية"، رغم بقائها في التسجيل المصوّر، وقد عدتُ إليه فعلاً كما إلى النصوص المكتوبة، لأتأكد من صحة هذه الملاحظة، وقد وجدتها صحيحة بالفعل.

بيدَ أنَّ ما يدعونا للعزوف عن هذا التفسير، هو الكتاب الاستثنائي بكلّ معنى الكلمة، الذي أصدره الوزير ظريف نهاية السنة الفارسية المنصرمة (أيام قبل: 21 آذار الماضي) ومارس فيه مراجعة هي الأكثر عمقاً وجذرية وجرأة، تصدر عن دبلوماسي وسياسي إيراني إبّان السنوات الأخيرة، حتى أراه قد استحقّ بجدارة، ما وصفه به ظريف نفسه، من أنه يمثل وصيته السياسية، (المصدر، ص: 461).

لقد مرّ على ظريف أكثر قليلاً من سنتين ونصف السنة، منذ أن ترك قمة جهاز الدبلوماسية الإيرانية وزيراً للخارجية، في سنوات ثمانٍ من عمر حكومة حسن روحاني (في المنصب: 2013 - 2021م).

ما حصل أنه بعد سنة من العزلة والصمت والانكفاء، ومقاطعة الجوّ العام على مستوى الصحافة والإعلام والحياة السياسية العامة؛ أن عاد ظريف إلى الواجهة بشحنات معلوماتية ونقدية مكثّفة، لمواجهة تيار النقد السلبي التخريبي الجذري، الذي تصاعد مع بداية حكومة إبراهيم رئيسي، ضدّ الرئيس السابق حسن روحاني، ووزارته وأجهزته وقراراته وخطّ سيره، بخاصة ما يرتبط بالسياسة الخارجية وعمل الوزارة ووزيرها محمد جواد ظريف، حتى بلغ حدّ المطالبة بمحاكمتهم ولاسيّما روحاني وظريف. أعتقد أنَّ رصد نصوص ومشاركات ظريف في التجمّعات والندوات واللقاءات والمحاورات خلال نحو سنة ونصف السنة، يكوّن مجموعه مجلداً ضخماً من الصفحات، لكنه لن يبلغ في أهميته مطلقاً ولن يرقى قطّ، إلى أهمية الكتاب- الزلزال الذي أقصده.

ففي الأيام الأخيرة من السنة الفارسية المنصرمة (النصف الثاني من شهر آذار الماضي) تداولت جميع مواقع الإعلام والصحافة والمنصات الإخبارية في الفضاءين المطبوع والإلكتروني، خبر صدور كتاب جديد لظريف، بعنوان: "ذروة الصبر أو مسار الصبر: خواطر أو ذكريات ثماني سنواتٍ في الوزارة"، (بالفارسية: پاياب شكيبايى: برداشت هاى از هشت سال وزارت).

نفدت بسرعة الطبعة الأولى من الكتاب الذي صدر عن مؤسّسة "اطلاعات" الصحافية المعروفة في إيران، في غضون أيامٍ قليلة، وقد فشلت جميع محاولاتي للحصول على نسخةٍ منه رغم كثافة الرصد والمتابعة والجهد، ولم يكن من نصيبي منه إلا نسخة من الطبعة الثانية التي نزلت إلى الأسواق بعد انتهاء عطلة نوروز، والأيام الأولى من بداية السنة الفارسية الجديدة.


عقدة العسكرة

لا وجه للمقارنة قطّ بين حصيلة الكتاب الجديد، وما سبق أن ذكره ظريف من إشارات عابرة ضمن ندوات وأحاديث ومشاركات، من نقد بنيوي لمواطن الخطأ الإدراكي في العقل الدبلوماسي والسياسي الإيراني. فما جاء في الكتاب عن هذا الجانب، هو عمل منهجي منظم تضمّن مجموعة جريئة من التحليلات والمراجعات النقدية، لهذه القضايا بما في ذلك التحليل الإدراكي، يعدل مئة مرّة (الرقم حقيقي، وليس للتأكيد أو المبالغة) ما شاهدناه وقرأناه له مثلاً، في ندوة صحيفة "اطلاعات" التي افتتحنا الحديث عنها.

ففي هذا الكتاب يُقدّم ظريف خدمة جليلة، على مستوى تفصيل الكثير من الوقائع الملتبسة والمعلومات المجملة، والتحليلات ذات الصلة بالسياسة الخارجية الإيرانية وبنيتها المؤسّسية، وكيفية اتخاذ القرار، والاستقطاب الخطير المتصاعد والمتزايد بوتيرة عليا، منذ عقود ثلاثة بين الدبلوماسية والعسكرية، ومن ثمّ غلبة خطّ عسكرة هذه السياسة، وهيمنة الرؤية الأمنية عليها، وتضاؤل دور السياسة والدبلوماسية وحتى الاقتصاد، وأمننة الثقافة في العمل الدبلوماسي (تغليب المعالجة الأمنية وعدّها مدخلاً وعنواناً للعمل الثقافي نفسه). وقد فعل ظريف ذلك كله بلغةٍ واضحة لا تعوزها الصراحة، معزّزة بأرقام وتطبيقات وأمثلةٍ لا تكاد تُحصى من فرط كثرتها.


العلاقة مع العراق

لم تكن الخدمة التي قدّمها ظريف في كتابه التحليلي النقدي تقتصر على الإيرانيين وحدهم، بل شملتنا أيضاً في العراق والعالم العربي، ولاسيّما الخليج وسوريا ولبنان. فعن العراق يتحدّث بصراحة عن تراجع السياسة والاقتصاد، لصالح الأمن والعسكرة بعد أن استحوذت ستراتيجية العسكرة، على إدارة العلاقة بين البلدين، وهيمنت الرؤية أو المعالجة الأمنية على تفاصيل هذه العلاقة، فراحت حتى القضايا الثقافية تتحرّك برؤية أمنية. وقد كان من نتائج هذه السياسة أن استقرّ في ذهن العراقيين، بأنَّ "إيران تساعدهم من أجل مصالحها غالباً"، وقد جاءت أحاديثنا من قبيل: "إذا لم نقاتل داعش في العراق، لوجب علينا مواجهتهم في إيران، لتزيد العلّة، وتجعل العراقيين أنفسهم في موقع صاحب الحقّ"، بحسب ظريف (المصدر، ص 244).

بديهي لم يُنكر الوزير ظريف، ما اسماها بـ"أخطائنا" (لغزش هاى ما) في إدارة العلاقة مع العراق (المصدر، ص 245). لكن أشار في السياق إلى عناصر مهمّة في العلاقة بين البلدين، أهمّها النصيحة التي قدّمها على طبق الإخلاص لساسة بلده، وهو يدعوهم إلى ترك ملف تعويضات الحرب الإيرانية- العراقية، لأنه يفتقر تماماً إلى القاعدة القانونية والغطاء الحقوقي (ص: 247).

كما ألمح بل صرّح بوضوح، إلى إمكانية تجدّد النزاع بين البلدين في أيّ وقت للخلاف بشأن شطّ العرب، مطالباً العراق بحسم القضية في نطاق اتفاقية عام 1975م (المصدر، ص: 242، 473ـ 474).بتحليل ملف العلاقة مع العراق، ينتهي ظريف إلى أنَّ مرتكز الإخفاق في السياسة الإيرانية، يعود تحديداً وبلا تعقيد ولبس، إلى أنَّ "العسكرة هي نافذة علاقتنا مع العراق، وأساس تعاملنا معه"، (المصدر، ص: 245).


المجال العربي

على مدار عشرات الصفحات من كتابه، يقدّم ظريف قراءة هادئة في السياسة الخارجية مع المحيط العربي المشرقي، بدوائره المتعدّدة (العراق، الخليج، سوريا، لبنان) ليخلص إلى ملاحظة سلوكية داخلية خطيرة مؤدّاها، أنه كلما اتجه موقع إيران للهدوء والتحسّن، تصدر خطوات من الداخل الإيراني مرتجلة وجهولة، تؤزّم الأوضاع وتعيدها إلى أسوأ مما كانت عليه في السابق، ما يؤدّي إلى هدر الفرص المتاحة وتحويلها إلى تهديدات لإيران (المصدر، ص: 216). وهذه الحالة في تفسير ظريف لا تبتعد عن صراع القوى في الداخل والتدافع بين الأجنحة الداخلية المتخاصمة، ودفع خصومتها إلى السياسة الخارجية نفسها (ص: 217). عن العلاقة مع منظومة دول الخليج العربية يتحدّث عن رؤيتين، الأولى سلمية أبوية غير مستفزّة، تتوسّل بكلّ المشتركات وفي الطليعة الجانب المعنوي والاقتصادي، هي التي يتبنّاها؛ وأخرى تتكلم بلغة القوّة والهيمنة والاستعلاء، وسيلتها التخويف والتهديد والإرعاب وفرض الأجندة خارجاً عن الآليات الدولية (المصدر، : 232). الرؤية الأولى تفضي برأيه إلى ستراتيجية اندماج إيران بالمنطقة، وتحقق لها مكاسب مضاعفة معنوية ومادية، وتبعد التدخّلات الخارجية. والثانية لا تقتصر تبعاتها على خسارة المكاسب وحسب، بل تفتح المجال عبر ما تثيره من اضطراب وعدم استقرار، إلى تدخّل المزيد من القوى الخارجية وما أكثرها (ص: 232 - 237).


مرجعية الخلل الإدراكي

رصدتُ في الكتاب حتى الآن (لم أزل في طور القراءة والتهميش) أكثر من خمسين خطأً إدراكياً أساسياً وفرعياً، مرّ عليها ظريف في الدبلوماسية والسياسة الخارجية الإيرانية، معزّزة بالأمثلة والتطبيقات، منها: وهم المشروعية العالمية، والمقاطعة، وعدم الالتقاء على مرجعية واحدة لمفهوم الأمن القومي، وتعدّد مراكز القرار في السياسة الخارجية، والإشكاليات البنيوية في وزارة الخارجية الإيرانية (مثل قلة الكادر النسوي، وضعف الإمكانات المادية) هكذا إلى أن ينتهي به الوصف خطوة فخطوة، لتحليل يرجع الكثير من هذه المشكلات إلى عنصر الخوف والتهديد الذي راح يسكن العقل الإيراني، ويجعله قلقاً حذراً متوجّساً من كلّ ما حوله تقريباً، قبل أن يسقط في شرنقة "العسكرة" ويصبح ضحية الرؤية الأمنية، حين تغلبت العسكرة على السياسة الخارجية وطغت عليها بصبغتها مع هيمنة الرؤية الأمنية، لاسيّما في العلاقات الإقليمية مع المنطقة.

صحيح أنه يتحدّث في نظرية التفسير عن عوامل أربعة، كانت وراء إزاحة السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية بعيداً عن مرتكزها المعنوي والثقافي، ودفعها للتمركز عسكرياً وأمنياً، هي باختصار: حرب السنوات الثماني، إرهاب منظمة (مجاهدي خلق)، تهديدات أميركا و"إسرائيل"، النفوذ الناعم للاتحاد السوفياتي السابق وتغلغل الجماعات اليسارية (المصدر، ص: 255).

لكنه لا يتوقف عند حدود هذه العوامل، بل يكتشف حين يتوغل في نظرية التفسير أكثر، ويمعن بتحليل عوامل الخلل الإدراكي؛ أنَّ العقل السياسي الإيراني لم يزل يعيش في عالم القطبية الثنائية، يوم كانت تسيطر سياسة المعسكرين على العالم وتهيمن على العلاقات الدولية؛ وهذا العقل لم يتحرّر بعد من هذا القالب ولوازمه وأوهامه.

وهذا برأي ظريف هو المرتكز الأعمق الذي تنشأ عنه وترجع إليه أغلب أو الكثير من أشكال الخلل الإدراكي، فيما يقدّمه من تشريح مُصّراً عليه من أول صفحات الكتاب حتى آخره (يُنظر مثلاً: المقدمة، ص: 15. وخاتمة الكتاب، ص: 461).