كلما اشتدت أزمات العالم حدة وتصاعدت ؛ ظهر النفاق العالمي في السياسة الدولية أكثر صراحة ووضوحا. نظرة واحدة متفحصة لمواقع التوتر الأبرز في العالم كفيلة بايضاح هذه الصورة التي باتت تخرج الى السطح بشكل أكثر جلاء، مع قدرة المتابع على مشاهدة ما يجري في الملفات المختلفة.
وفي الأيام الاخيرة كان فض الاعتصام في السودان، الذي جرى بطريقة وحشية وادى الى مقتل العشرات من الابرياء وجرح مئات اخرىن، نقطة كشف جديدة لهذا النفاق الجديد/ القديم. بعض الدول الكبرى (الكبرى اقتصاديا وعسكريا لا اخلاقيا وقيميا) رفعت صوتها فقط بعد حدوث المجزرة لتنادي “بضرورة الحوار” بين الاطراف المختلفة! ومعروف ان الحوار كان مطروحا على الطاولة، وان الحوار بعد حدوث المجزرة له معنى آخر. هذا في الوقت الذي لا تزال مستمرة فيه بتصدير الاسلحة لجهات ودول تساعد النظام العسكري فضلا عن ان هذه “الدول الكبرى” قالت عن هذه الجهات مرارا انها تفتقر الى ابسط مقومات الديمقراطية وحقوق الانسان وانها انظمة خطرة ومغامرة وقادرة على الانزلاق الى افعال كارثية.
في زيارة ترامب الاخيرة الى بريطانيا، قال عمدة لندن بوضوح ان ترامب بات يمثل رمزا لليمين المتطرف في العالم. هذا التصريح الواضح قابله ترامب بسخرية واهانة لعمدة لندن البريطاني من اصول مسلمة باكستانية. بينما علق رئيس حزب العمال البريطاني برفض هذه الاهانة، داعيا ترامب الى مراجعة سياساته، فيما تجاهلت تيريزا ماي الموضوع، قائلة ان ما يربط الولايات المتحدة وبريطانيا هي “قيم مشتركة”، ومصالح ايضا.
ولكن اية قيم مشتركة ايتها السيدة ماي، ولماذا تضعين رابطة المصالح كما لو انها في الدرجة الثانية بعد “القيم المشتركة”، ونعرف جميعا ان المصالح هي الرابط الاساس، الذي يجعل من الحبات قبابا، ومن القباب حبات، ويجعل من الكيل بمكيالين مكاييل عديدة كل منها مخصص لحالة معينة؟
بالطبع هناك اللعبة الاعلامية لاغراض الراي العام دونما اي افعال حقيقية. وفي هذا السياق فان بريطانيا والمانيا طلبتا من مجلس الامن عقد جلسة حول الاحداث الدموية في السودان. ولكن اذا ما برز اي مشروع قرار حول الموضوع يدين المجلس العسكري السوداني، فهل سيتحول الى اجراءات فعلية؟ دعم المعارضة مثلا، او منع السلاح عن القوى الداعمة للمجلس العسكري؟ بالطبع لا. هذه الاجراءات فقط تصبح فاعلة في حالات اخرى، حتى لو كان الضحية فردا واحدا، او ليست هناك ضحية على الاطلاق، او ضد الضحية نفسها!
فمواقف الدعوات الى “عدم التصعيد” في ادلب (حيث من المتوقع والمعروف انتصار الجيش السوري وحلفائه في اي مواجهة عسكرية) هي ما يمكنه أن يفضي الى أفعال حقيقية. اما حقيقة وجود منظمات ارهابية في ادلب نفسها، وهو ما كانت ستقوم الدنيا ولا تقعد بخصوصه، فهو امر ليس رئيسا او حاسما كما يبدو الآن. انها أقنعة المصالح التي تصبح أكثر شفافية وانكشافا، كلما اصبحت الاحداث أكثر سخونة، متطلبة وضوحا أشد وتحديدا أكبر.