سيميائية الضوء في غرباء
فاطمة حيدر العطاالله
نصُّ {غرباء} لنازك الملائكة مليء بالألغاز والإشارات، نصٌّ خارق للمتوقع يذهب بنا إلى تتبع العلامات الواردة فيه سيميائياً، للوصول إلى بؤرة التأويل الشعري.
تعد السيميائية بحسب جورج نومان {العلم الذي يدرس كل أنساق العلامات التي بفضلها يتحقق التواصل بين الناس}. وقد عرّف بيرس السيموطيقيا بأنها الدستور الشكلاني للإشارات.
وفي "غرباء" شيفرات عديدة نضعها تحت ضوء السيميائية، لنكشف عن خوابي هذه الدلالات التي تحملها؛ فنبدأ من العنوان الذي يشكل الشيفرة الأولى أمامنا. لدينا مفتاح إشاري؛ فالعنوان "غرباء" يقودنا إلى الغربة، فهل المقصود هو الغربة نفسها في النصّ؟ أم نذهب إلى دلالات أخرى؟ إنَّ هذا سيتكشف من خلال فكّ شيفرات العنوان الثقيلة.
لقد جاء العنوان بصيغة الجمع، وهذا ما جعل الدلالة أثقل سيّما بعد غياب الخبر الذي يُعدُّ عنصراً أساسياً في المعنى، وقد حُذف الخبر، وهذا ما جعل المعنى ذا ثقل وامتداد لا تحدّه نهاية، وقد جاء بصيغة النكرة التي أفادت عدم الحصر والعهد، وحملت صيغة (فعلاء) رمزاً إشارياً إلى عنصر التعميم، وهذا ما جعل العنوان يحمل طاقة انفعالية بنسق رمزي، إذ يحضر في نهاية كل مقطع في النصِّ النازكي، فهي تمتد في جسد النصّ في ورود مختلف؛ فإذا أردنا فكَّ هذه الشيفرة في كل مقطع، لوجدنا أنَّ الغربة التي ترمي إليها نازك ليست حالة واحدة في ذات الوعي نفسه، إنما هي كمين للقارئ ليستشعره كلما ابتعدَ في القراءة. شيفرة الغربة في كلمة "غرباء" تتسلل بين خيوط النصّ، فلو تتبعنا الدلالة في النص لوجدنا: "اطفئ الشمعةَ واتركنا غريبينِ هنا/ نحن جزءان من الليل فما معنى السنا؟".
الغربة تصبح مرادفاً للوحدة، الغربة غربة المكان والنفس أولاً. اتركنا غريبين؛ أي وحيدين، لا نشبه أيَّ شيء مألوف. ثم تجنح الشاعرة بعد هذا الإنكار للمشابهة إلى التعريف فتقول: "نحن جزءان من الليل" لتلغي تساؤل المتلقي وتعطي معنى آخر هو الحزن والسهاد، إضافةً للمعنى الأول وهو الوحدة وعدم المشابهة والمقارنة بشيء آخر، ثم تعود على التساؤل الذي يحمل ملامح التعظيم، أي تعظيم للحالة التي وصلت إليها الشاعرة من هذا الحزن الذي سما بها إلى درجة فاقت السنا، فجعلتها أسمى وأسنى. وإذا تتبعنا إشارات النص سنصطدم بسيميائية الشمعة التي تعدُّ معادلاً موضوعياً للعمر؛ فإطفاء الشمعة يرمز إلى دلالة جديدة هي استقبال عام جديد؛ فالشاعرة تستقبل العمر بالوحدة والعزلة التي تعيشها مع الواقع هي والآخر المحبوب؛ والشمعة هنا إشارة واضحة لمعنى العمر.
يأخذ الضوء دلالة جديدة هنا؛ فهو ليس الذي يحمل النور، بل العين التي ترى وتلقي نظرة استطلاعية على روحين تتلاشيان، روح أشبه بالوهم، فهي تشكُّ بوجودها لشدة ضآلتها، فهي بعض من بعض، ثم تعاود ذات الشاعرة الانصهار مع الآخر فتطلق "الأنا" على "نحن".
اللقاءُ الباهتُ الباردُ كاليوم المطيرِ
كان قتلاً لأناشيدي وقبراً لشعوري
دقِّت الساعة ما جدوى حبوري؟
إن نكن نقضي الأماسي أنت أدرى
غرباءْ.
الغربة هنا تُذكَر في ختام المقطع، وكأنَّ المقطع كلّه شرحٌ لها، فهذه اللفظة تتجرد من معانها المعجمي لتدخل في تقريرية تظهر فيها بالشكل الذي يخدم وعي الشاعرة ونفسها التي تعاني تلك الغربة، التي جعلتها تذكرها وتدلل عليها في نهاية كلّ مقطع.
الغربة هنا لا تأتي فجأة، ولكنّها وليدة لمعطيات تطرحها الشاعرة في المقطع: "اللقاء الباهت، الساعة، أنت أدرى، قتلاً لأناشيدي، اليوم المطير" كلُّ هذه العناصر تعاضدتْ لتكشف غربة نفس الشاعرة، إذ اصطدمتْ بها لتدخلً إلى غربتها أمامها من هذا الوجود المنافي لتوقعاتها.
مرَّت الساعات كالماضي يغشاها الذبول
كالغد المجهول لا أدري؛ أفجر أم أصيل؟
مرَّت الساعات والصمت كأجواء الشتاء
خلته يخنق أنفاسي ويطغى في دمائي
خلته ينبس في دمائي يقول:
انتما تحت أعاصير المساء
غرباء.
وهنا نرى الصراع بين الشاعرة والوقت الذي يمر بلا جدوى ودون وعي منها بمروره، فتشبهه بالماضي دلالة على أن هذا الضياع لم يكن عفوا، إنما كان موجودا قبل. وإن صيغة الجمع في الساعات هو الاستخدام الجمعي الأول في هذه الشفرات، والصمت يصبح أقوى؛ باستطاعته الخنق والطغيان (يطغى في دمائي – يخنق أنفاسي) يصبح الصمت الطرف المنتصر في المعادلة النفسية هذه؛ إذ تستسلم ذات الشاعرة صامتة أيضا، وشيفرة الصمت تحرض القارئ على استكشاف (أنا) الشاعرة ومعاناتها.
والخاتمة النصية "غرباء" تأتي تثبيتا للموقف الذي هي عليه ذات الشاعرة:
أطفئ الشمعة فالروحان في ليل كثيفِ
يسقط النور على وجهين في لون الخريفِ
أولا تبصر؟ عينانا ذبولٌ وبرودُ
أولا تسمع؟ قلبانا انطفاءٌ وخمودُ
صمتنا أصداءُ إنذارٍ مخيفِ
ساخرٌ من أنَّنا سوف نعودُ غرباءْ".
تعود الشمعة مجدداً في حضورها وإصرار الشاعرة على إطفائها، تعود لتمثّل العمر والبداية الجديدة المرتقبة في مطلع كلّ انتظار، والنور الذي يعكس لون الحقيقة التي تكشف كل ما هو مظلم، ما بعد الضوء تظهر الحقيقة المرّة وهي الحزن وذبول الشاعرة ومحبوبها، وتصرّ على اتحادها من حيث الحال مع الآخر في كل شيء وهذا يتأتى من صيغة المثنى، تبدو الحواس امتداداً لحالة الصمت الذي يسود في الموقف "أولا تسمع؟ أولا تبصر" يعود الصمت الذي هو المتكلم الوحيد الذي يطلق الخطر; الخطر الذي ينبع من ذات الشاعرة القلقة، يأخذ الصمت دوراً سلبياً; فهو ساخر وغير مقتنع بالعودة، لتعود الشاعرة إلى الخاتمة النصية "غرباء"، والتي تأخذ شكلاً دائرياً يلغي التوقعات المرجوة كما سبق، فتظهر سيمولوجيا متحولة تغلب التوازن الفكري في المقطع الشعري لتثقله أكثر، بالدلالة المحتمة في كل القصيدة، فنرى الصمت صفارة إنذار وعلامة دلالية تمردت على النقيض وهو الكلام، ليشبه هذا المقطع عملاً سينمائياً يزيح الستار بعد نهاية المشهد، ليكشف من جديد عن الغربة التي شكلت بؤرة النص وماهيته، وبرغم تكرارها في كل قفلة، إلا أنها لا تأتي واحدةً في كل مكان; فالتكرار ذو طبيعة خادعة يوقع القارئ في دفقات شعورية تتكاثف في سردها ثانية أو ثالثة، وهو تأكيد على الحالة الانفعالية التي تعتري ذات الشاعرة، وتمثل الوجه الحقيقي لها:
نحن من جاء بنا اليوم؟
ومن أين بدأنا؟
لم يكن يعرفنا الأمس رفيقين فدعنا
نطفر الذكرى كأن لم تكن يوماً من صبانا
بعض حب نزق طاف بنا ثم سلانا
آه لو نحن رجعنا حيث كنَّا
قبل أن نفنا وما زلنا كلانا غرباء.
يبدأ المقطع بهذه التساؤلات التي تمثل سيالات عصبية لإنعاش النصّ بعد الصمت والقرار الأخير وهو "الغربة"، وطرح الفاعلية الحقيقية للتفكير والتساؤل في إشارات النصّ. إن هذه الإشارات توّضح وتفسر رؤية الشاعرة من مصيرهما، فهي ترى البداية مثل النهاية التي وصلت إليها، فتقرر الفراق. وما ذلك الحب إلا نزوة عابرة أخذت من عمرها أياماً. الإشارة في لفظة "آه" تدلّ على أسى الشاعرة وحسرتها، وفي شيفرة أخرى نرى لفظة "لو" عاملاً في الإبلاغ عن خيبة أمل الشاعرة مما تتنماه واصطدامها بواقع مخالف لما تريد لما هو عليه حالها من الفراق، وموت ذلك الوهج الذي تنتظر وميضه في قلبها ثم تنتقل إلى وعي يكاد يكون ثابتاً وهو الغربة بصيغة الجمع إشارة منها إلى كثرة "أناها" كأنها أشخاص يتناسلون من آخرين، إنها تشعر بكثرتها في الحزن. هذه القفلة التي تنتهي إليها الشاعرة تشكل عن طريق التعالقات النصيّة نتيجة وواقعاً ومصيراً، فإن الشاعرة تشعر بغربتها مع نفسها ومع الواقع فنراها تصهر كل مكونات الوجود مع ذاتها، فهي تتماهى مع الطبيعة وتتحد لها في كلّ ما تشعر; فنراها تذكر الخريف وتستعير ذبوله وعراءه، نرى هذه النتيجة أي الغربة واقعاً "غرباء" وحاضراً "وما زلنا غرباء" وهذا نستدل عليه من القراءة السيميائية الإنتاجية التي تعدّ قراءة إنتاجية تنقلنا بالنص من حدود الاخبار والتقرير إلى توليد دلالات جديدة تعكس بمرآتها خوابي النصِّ الشعري.