ابراهيم العبادي
يمر المجتمع العراقي بحالة سيولة ثقافية، ففي زحمة الاشتباك السياسي والصخب الإعلامي وفوضى الأفكار والشعارات والحلول المقترحة لأزمة الدولة والمجتمع العراقي، تجري بهدوء ومن دون اكتراث كبير، عمليات تغيير ثقافي وسلوكي، يتمثل في انجذاب قطاع اجتماعي كبير، هو قطاع الشباب، الى سلوكيات وممارسات واهتمامات، لم تكن بهذه الحدة والمجاهرة بدلالاتها واهدافها المرفوضة اجتماعيا واخلاقيا.
ينشغل هذا القطاع بوسائل الاتصال الاجتماعي ويعيش حياة افتراضية ذات قطبين، القطب الاول، يتمثل في اللهو الكبير، الذي يستهلك الوقت ويأخذ الشباب من الجنسين، إلى عوالم بعضها يتعارض مع ثقافتهم الاصلية ومحدداتها الاجتماعية والاخلاقية، ولا يرون في ذلك بأسا وإخطارا وخروجا على المألوف
الاجتماعي، بعدما رسخت لديهم فكرة الخصوصية الفردية، القطب الاخر يتمثل في الاستغراق في الجدل السياسي والحزبي والمتابعة، لما ينشر في مواقع الاتصال المليء بالمعلومات الناقصة والبيانات المشوهة والمنشورات المضللة، وتغدو هذه مصدر المعلومات وقاعدة البيانات التي يُبنى عليها الوعي السطحي، الذي يتحول بسرعة إلى جدل سياسي ومواقف لاتنم عن رؤية أو قاعدة ايديولوجية، بل مادة صراعية وانفعالات نفسية وتعصبات وصور نمطية، وبذلك يخسر الشباب براءتهم ويصيرون فريسة لخطاب متطرف أو عدمي أو محبط أو ناقم أو
متملق.
بين هذه الاستقطابات، تتحرك السلوكيات الجديدة التي تبدو ناتجا عرضيا للسلوك السياسي في البلاد، ففيما ينقسم المجتمع السياسي إلى احزاب وزعامات وقوى مسلحة، استعانت هذه القوى بإعلاميين وفضائيات ومحللين وقراء فال ومنجمين، هبطوا بالمحتوى السياسي والثقافي الذي يسوقونه للمجتمع، فتراجعت معه المعايير القيمية والاخلاقية، وصارت البضاعة المسوقة تستعين بادوات الجذب خلافا لضوابط المجتمع، ونمت على هامش هذا الفئة فئة فتيات الاستعراض، باهتمامات تافهة ومضمون سطحي ومعارك اعلامية، وربما سياسية تنتجها هذه الفئة المستفيدة من حجم المتابعة المدهش، بما يشير إلى هيمنة التفاهة التي تحدث عنها الكندي الان دونو، والتحليل النفسي لذلك لا يخرج عن الملل الذي كرسته سياسات الهوية ومعارك السياسة والدوران المزعج في حلبة المشكلات اليومية، وتراجع دور المثقف والمفكر الاخلاقي، وصعود موجة الموجهين الاعلاميين الذين يفتقرون إلى التكوين الثقافي، المتعجلين للحصول على مكاسب المرحلة ماديا وسياسيا.
في خضم هذا الانحطاط، الذي ينم عن اخفاق الوظيفة الرمزية للدولة، يثور سؤال عن اسباب تراجع دور المثقفين وضآلة الاهتمام بالمنتج الفكري الجاد، وسيطرة الخطاب المسطح على الاهتمامات اليومية، بدل مناقشة قضايا البلاد الاشكالية بنقاش اجتماعي وثقافي واسع النطاق، فقد غابت المجادلات ذات الاتجاهات العميقة، وحل بدلا منها البرامج السياسية التي تشبه الاغذية السريعة، التي تشبع الجائع بصرف النظر عما تحتويه تلك الاغذية من مخاطر صحية وتحديات
مستقبلية.
تنعكس هذه الظواهر السياسية والاجتماعية على سلوك وتفكير الافراد، فتشيع اجواء من التناشز بين ماكانوا عليه وماصاروا اليه، يرى عالم الاجتماع البريطاني انتوني غدنز أن القيم والمعايير تعمل على تشكيل الاسلوب الذي يتصرف به افراد ثقافة ما ازاء ما يحيط بهم، وهو لا يستغرب من مواجهة المجتمعات لصراعات بين القيم الثقافية بسبب المتغيرات، التي يحفل بها عصرنا نتيجة انتقال الناس والأفكار والسلع والمعلومات.
إن المتغيرات التي يمر بها العراق على الصعيدين السياسي والاقتصادي انتجت سلوكيات نابعة من (الترف)، الذي تعيشه قوى وفئات سياسية استفادت من السلطة والنظام السياسي والانتعاش الاقتصادي، وصارت تنفق اموالها يمينا وشمالا، لتكريس نفوذها والاستمتاع بثرواتها واستدامة حضورها بشراء (الاصوات)، وصناعة رموز (جمالية) واذواق، ومد اجنحة الحماية على (مهرجين ومهرجات)، وابقاء الفضاء الاجتماعي ساخنا بافتعال معارك بين (عصابات) الاستعراض سيما الفاشنستات والعارضات والمروجين ونجوم وصناع المحتوى وامثالهم.
اي قيم ينتجها هذا النمط من البشر، واي دور اجتماعي يبحثون عنه؟
بغياب القيم والاخلاقيات التي اعتاد عليها مجتمع محافظ كمجتمع العراق، وحلول قيم (الرفاه) القادمة من مجتمع الصفقات والتخادم بين السياسيين، تولد طبقة اجتماعية جديدة بسلوكيات جديدة هي مزيج من نواتج العولمة الثقافية والاقتصادية، تزداد مساحة حضورها كلما فشل مجتمع النخبة في قيادة حالة التغيير الاجتماعي بوعي وتخطيط، مجتمعنا مستقطب بين طقوسية مفرطة ورفض متطرف وما بينهما تُنتج ظواهر ثقافية وتعبيرات ممجوجة هي انعكاس لإبحار سفينة المجتمع إلى وجهة غير محددة.