نصير الشيخ
في معرضها "ديناميات" تتجه بوصلة الفنانة التشكيلية التونسية هندة بو حامد إلى مديات واسعة منطلقة من الذات في بعدها البؤري، ومركز ثبات في النظر إلى الأشياء وعناصر الطبيعة، مشكلة هذه المعاينات "أنطولوجيا الذات" في تأويل الأمكنة. حيث العين الباصرة والعقل الثاقب وإحساس الفنان ومن ثم تلمس الماحول، كل هذا أنتج لنا لوحات الفنانة هندة التي انتظمت في معرضها الذي اشتمل على ثلاثين لوحة جاءت بمقاييس وخامات مختلفة ومتنوعة بعد عامين من البحث والاشتغال.
زاوجت الفنانة في كيمياء اشتغالها التشكيلي لانتاج لوحات المعرض على مجموعة من تقنيات أسهمت في تجسيد رؤاها وأفكارها، ومن ثم بسط عالمها اللوني واستخدام خاماتها المنتجة لنصّها البصري، فكان "الأكرليك" هو العنصر اللوني المهيمن على قماشة اللوحة .
تطرح الحامد مشروعها اللوني المحمل بأفكار وهواجس الذات المعاصرة، وهي ترقب العالم وهي ماضٍ لشفير الهاوية، وتحضر لوحاتها ذاتاً متفرّدة تكرّس تأملها للوجود برمتهِ، حاملة فأس الحداثة في الرسم لتكسير القواعد والقيود للوقوف على الجوهر الحقيقي للحياة.
وهي هنا تفلسف اشتغالاتها منطلقة من بعدٍ رؤيوي لدور الفن الذي هو "نتاج الفكر وتجلِ الروح، وما هذا المعرض إلّا تجربة حسيَّة وروحيَّة ووجداني، ضم العديد من اللوحات التي هي نتاج اللأزمة التي نعيشها او تلك التي تؤسس لعلاقات بالمحيط أو الطبيعة".
السطح البصري في لوحات الفنانة يندرج في تحولات طوبوغرافية تشي بهيئات جبلية أو تضاريس أرضية تتناغم مع ما يتطامن في النفس البشريّة من أعماق سحيقة، حيث مساحة اللوحة وتدرّجها اللوني تتشكل فيها وعليها هذه الكتل الصخريّة وكهوفها، ويمتد اللون الصحراوي فضاءً واسعاً له ما يكسر حدته وصلابته وجود ألوان قوس قزح منسربة نحو وديان منسرحةٍ ومتجهةٍ الى مساربها تتداخل في النسيج اللوني للوحة تكوينات هي من صنع الطبيعة أو من مخلفاتِ أحيائها التي عاشت وتطامنت في هذه الأماكن.. ريشة طائر.. عشبة مال لونها
للسواد.
اللوحات في حضورها النوعي تشكلت من تكوينات تشير بقوة إلى تأثير المكان والذي يبوح بعناصره ومفرداته، لذا يتشكل المشهد في لوحات الفنانة من هارموني لوني يأخذ بالتوهّج وكأنّه في تدفقٍ موجيٍ يفتح لنا مساراته البلاغيّة والجماليّة .
ترى الفنانة هندة الحامد في اشتغالها على السطح البصري والتجدد في عملها التشكيلي هو "مراوحة بين ثنائيات مختلفة تعبر عن جمالية تحتكم للمكان وتحلل رموزه عبر المؤثرات المادية واللونية التي ترابطت وتجاذبت مع الأشكال لتوحي بمقاصد فيها من السرديّة والقصصيّة، كأنها حكايات تعتمل في دواخلها بخيط رابط لا مرئي".
في معرض "ديناميات/ أنطولوجيا الذات في تأوي الأمكنة" طرحت الفنانة مفهومها النظري متساوقاً مع اشتغالها الإجرائي على سطح اللوحة، وتجسد هذا المفهوم في حيزه الوجودي القار "المكان" الذي هو التمثيل الأبلغ للوجود في تاريخيته وحفرياته وانطلوجيته. يحضر هنا بصيغته موقعاً تشتغل عليه عوالم أكثر غموضاً بحثا من الفنانة/ الرائية عن منابع إشراقٍ تجدد الحياة التي نريد، وتلك هي من مهمات الفنان الباحث/ المنقب.
هندة بو حامد في لوحاتها ومشهديّة حضورها كانت تصغي لنداءات الطبيعة وفيوضها في الأمكنة الباحثة عنها لتجسيدها في لوحات بالغة التصوير لوناً ورمزاً وايقوناتٍ يفتح لنا على الدوام مديات التأويل .
اللون وحضوره في لوحات الفنانة يجدد منطوقه التأثيري وبما يتحايث مع الذات وهواجسها ليتحول الى صيغة تعبيريّة ومن ثمّ إلى أثر، فهي تجد أن (الألوان تمتلك لغتها الذاتية وتأثيراتها العميقة والداخلية على الآخر، لخلق جدل وجداني وروحي متأتٍ من التنويع في طبيعة اللون واللمسة).