{لونا} يسهر مع أم كلثوم

الصفحة الاخيرة 2024/06/06
...

د. طه جزاع

في حياة الفنان رافع الناصري عدة محطات مفصليَّة ترويها رفيقة دربه مي مظفر في كتابها "سيرة الماء والنّار" الذي صدر بعد رحيله بأعوام ثمانية، غير أن المحطة الأهم في مسيرته الفنية يرويها بنفسه، وتمثلت في تلك السنوات الأربع التي قضاها طالباً في الأكاديمية المركزية للفنون الجميلة وسط بكين بعد وصوله إليها أواخر أيلول 1959.
حكاية مذكراته "رحلتي إلى الصين" التي قدم لها فاروق يوسف، تُعد وحدها، حكاية مثيرة، ذلك أنّه كان ينوي كتابتها منذ أواسط الستينيات، لكنها لم تصدر إلا في 2012 قبل رحيله بعام واحد، أي بعد مرور أكثر من نصف قرن على تلك الرحلة، ذلك أن هذه المذكرات، ومنها رسائله الأسبوعية التي كان يبعثها إلى والده ويصف فيها تفاصيل حياته اليوميّة، أُحرقت في تنور دار أهله في بغداد بعد ما حدث في شباط 1963: "خوفاً من أن تشكل نوعاً من الخطر على حياة العائلة، كونها قد أُرسلت من الصين الشيوعية"!. وتكرر ما يشبه ذلك الأمر بعد أربعين عاماً، لكن بصورة أخرى أكثر مرارة، فقد ترك الناصري مذكرات ورسائل شخصية وصوراً فوتوغرافية ووثائق ضرورية، في داره ببغداد عام 1991، ومعها حارس أمين يثق به، على أمل أن يعود اليها في يوم من الأيام، غير أن الدار استبيحت بعد دخول القوات الأميركية إلى بغداد في التاسع من نيسان 2003. يكتب رافع في مذكراته: "وكان الأسوأ لنا ذلك اليوم من أيام العنف العراقي الأسود الذي قتلوا فيه حارسنا الأمين أبو حيدر، فأستبيح الدار وتُرك فارغاً لزمن طويل".
ذلك يعني انه اعتمد على ذاكرته في تدوين صفحاته ورسائله التي أُحرقت في تنور شباط، أو نُهبت وتبعثرت وتمزقت وذهبت مع الريح في فوضى نيسان، لهذا فإنه لم يلزم نفسه بمذكراته الصينيّة كما يوحي بها العنوان، فهي لا تمثل أكثر من عشرين صفحة فحسب من مجموع صفحات الكتاب المئة، أما الصفحات الأخرى فقد خصصها لرحلات أخرى بدأت من مسقط رأسه في تكريت وذكريات الطفولة والدراسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية قبل انتقال أسرته الى بغداد عام 1956 والتحاقه بمعهد الفنون الجميلة، حتى حصوله وهو في التاسعة عشرة من عمره على زمالة دراسية إلى الصين التي اختارها وفضلها على الدول الاشتراكيّة وبعض الدول الأوروبيّة بسبب معرض صيني ضخم للرسم والنحت والطباعة والخزف والحرف التقليدية استضافه المعهد في ربيع 1959: "يومها أدهشني المعرض، وأُخذت بالمعروضات، خاصة الرسم منها والخزف، وواظبت على زيارته كل يوم تقريباً. وعندما وُضعت أمام اختيار مكان الدراسة الأكاديمية، لم أتردد في اختيار الصين، لأنني وجدتُ الفرصة سانحة لاكتشاف هذا العالم الغريب". في جامعة بكين صار اسمه "لونا" وهو اسم مركب من مقطعين، " لو" اسم صيني شائع، و "نا" اختصاراً للناصري، وكانت أول كلمة نطقها "وو آي ني" ومعناها أنا أحبك، وقد قالها لصديقته الصينية وهما جالسان فوق تل أخضر مطل على بحيرة الجامعة!. أما سهرته مع حفل أم كلثوم الذي نقلته الإذاعة المصرية نقلاً حياً، فقد كلفته الحصول على توبيخ رسمي من الجامعة بعد أن سلم في اليوم التالي دفتر الامتحان أبيض من دون إجابات وغادر القاعة، فعدت الجامعة هذا التصرف تحدياً لها ولقوانينها الاشتراكية الصارمة، ولم تكتفِ بذلك، انما قدمت شكوى ضده إلى السفارة العراقية في بكين!.
"ذلك الامتحان المشهور الذي وضعني في موقف محرج قيل إنه يحدث لأول مرة في الجامعة".