صباح الخير أيها الاسكنجبيل

الصفحة الاخيرة 2024/06/09
...

محمد غازي الأخرس
ومن الكنايات البغدادية المنقرضة، التي يثبتها عبود الشالجي قولهم لمن يتظاهر في أمر ما بأكثر مما يقتضيه الحال: اسكنجبين، والاسكنجبين هذا يثبته الشالجي بالنون، بينما يذكره الآخرون ومنهم عبد الرحمن التكريتي باللام كما نلفظه اليوم "سكنجبيل"، وهو "شراب يصنع من الخل والعسل أو الخل والسكر، فيكون حامضا حلواً، ويصنع مركزاً ويستعمل شراباً مخففاً بالماء". 

والعراقيون يشربونه بكثرة لا سيما في الصيف، بل إن بعض النسوة النادرات يصنعنَّه في البيوت، ويتألف من الماء والسكر والنعناع. أما منشأه فيقال في النجف، وأصل تسميته جاء من كلمتين فارسيتين هما (سركه - جبين)، أي العـسل والخل، وبمزجهما يكون (سركنجبين). ولئن كان المشروب يخلط بالماء سابقاً، فإنه اليوم يخلط مع السفن آب أو الصودا، ويمزج جيداً قبل أن يشرب. وفي شارع المتنبي، يباع السكنجبيل في عربات تنتشر هنا وهناك. 

تذكرت السكنجبين أمس حين قدم لنا عند أحد الأقارب، وكنت جربته قبل سنوات ثم تركته بعد أن لم يرق لأهل بيتي. 

بالعودة إلى الكناية البغدادية، فإن مفردة السكنجبين تستخدم لإيصال معنى الإفراط في التظاهر بأمر ما، والدلالة مستقاة من كون الشراب مركزاً (ثخينا) ويروون في ذلك طرفة كانت وراء استخدام الكناية، وهي أن فتى جاء إلى حلواني وسأله: هل عندك سكنجبيل؟ ومد صوته بالكلمة، فرد عليه الحلواني: أي عدنه، بس مو هالثخن! 

ويورد نوري ثابت (جبزبوز) القصة بصيغة أخرى إذ يذكر أن أحد النحاة سأل العطار يوماً - هل عندك سركنجبيـ ...... ن ؟ مطيلاً حرف الياء بعشر مرات من مدات التجويد، فأجابه العطار قائلاً : مولاي عندي! بس مو هالثخن! 

الحال إن ثمة من يتوهم وجود صلة ما بين السكنجبيل والزنجبيل، وحقيقة الأمر أنه لا توجد صلة من أي نوع، إلا إذا افترضنا أنهم أخذوا من "الزنجبيل" الاسم فقط، لأن الأخير نبات معروف، وقديم. قيل إنه ينبت في أرياف عمان، وهو عبارة عن عروق تسري في الأرض، كالبطاطا أو الكمأ، وقد يؤكل رطباً أو يحضر ليضاف إلى الشراب. وكانت العرب تستطيبه، حتى أن الأعشى يصف جارية بالقول: وتفتر عن مشرق بارد كشوك السيال أسف النؤرا.. كأنَّ جنيا من الزنجبيل خالط فاها وأريا مشورا، أي أن أسنانها حين تبتسم تبدو مثل الشوك شديد البياض الذي في نبات السيال، ثم يشبه الثغر وكأنه من جني الأرى، وهو عسل النحل الذي يشتاره العسال ويجمعه. كذلك يصف المسيب بن علس ثغر إحداهن بالقول : وكأن طعم الزنجبيل به .. إذ ذقته وسلافة الخمر. ووردت مفردة الزنجبيل في القرآن الكريم بقوله تعالى:"ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلا"، وذلك من باب تحبيب المؤمنين بما ينتظرهم في الجنة من نعم، فقد كانت العرب تستلذ من الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته. أما التسمية، فيذكر الثعالبي أنها فارسية، وثمة من زعم أن اللفظ عربي منحوت من زَنَأَ في الجبل، إذا صعده وهو بعيد، وزنأ عليه إذا ضيق عليه. كذلك قيل أنه معرب من شنكليل الفارسية، وهي على زنة زنجبيل لفظا ومعنى، ويقابلها في التركية زنجفيل، وقيل إن أصل شنكليل من العبريّة والله أعلم. 

هذا ما خرجت به من الشرابين، الاسكنجبيل والزنجبيل، فتأمل رعاك الله.