النقد بين الجديَّة والمجاملات

منصة 2024/06/10
...

 د. حيدر علي الأسدي

النقد الأدبي والفني من حالات التكامل الثقافي في العملية الفنية والأدبية، لأنهما يمثلان رؤية تنظيريَّة لتطبيقات "النصوص الإبداعيَّة" أو "الأعمال الفنية الإبداعيَّة" ولا يمكن الحديث عن هذه التجارب من دون الإشارة إلى الجهود النقديَّة التي أبرزت النتاجات سواء قديما أو حتى في الوقت الحاضر.
ومن ينكر جهود كتاب "فن الشعر" لأرسطو طاليس، و"فن الشعر" لهوراس، وحتماً لا ننكر جهود "إريك بينتلي" وغيرها العشرات من كتب خلقت ذائقة ومسار وقننت خطوط عريضة للآداب والفنون على امتداد سنوات حتى جاءت الرؤية مابعد الحداثوية للتمرّد على تلك القوالب والتعليمات.
وهذا لا يعني بالمرة التنازل عن الأسس الرصينة التي أرست مفاهيم الأدب والفن.. فبالحديث عن أهمية النقد يقودنا الأمر إلى شحة أو ندرة الدراسات النقديَّة في العصر الحالي لأنّ أغلب الكتاب يصيبهم هوس البحث عن "الشهرة والنجوميَّة" مع ممكنات الانتشار الواسعة والتطورات ألتكنولوجية، لأنَّ الناقد أشبه "بمصور التلفاز" بعيد عن الأنظار ولا تصيبهم من الشهر إلا الندرة الشحيحة.
ومع ذلك فإن النقد يحضر في صورته المعاصرة عبر "الإصدارات المطبوعة" وأغلبها خاضعة لمزاج بحثي أكاديمي يستصعب أحياناً حتى على صاحب النتاج فهم هذا النقد وتفكيكه لما يضمه من لغة برجوازيّة عالية تتشبّث بمصطلحات غربيّة مستوردة تترفّع عن بساطة النص الإبداعي.
ويحضر النقد أيضا في المهرجانات الأدبيّة والفنيّة وغالباً ما يتعلق بالدراسات النقدية الأكاديمية، وهي تقدم كبحوث علمية ممنهجة في مهرجانات شعريَّة مثلاً أو ندوات فكريَّة تقام على هامش مهرجانات مسرحية أو للاحتفاء بمنجز أديب أو فنان.  
وهناك أيضا ما يتعلق بالأوراق النقديَّة "القراءات التحليليَّة السريعة" وهي القائمة على أما الارتجال لتحليل العرض برؤية نقديَّة تقترب أحياناً من لغة النقد الصحفي، أو نقد الصحافة الفنية والثقافية، وهو تحليل سطحي انطباعي شامل وعام لا يسبر أغوار العمل الإبداعي.
وهذا ما نجده مثلاً في "جلسات الاحتفاء واستضافة المبدعين" وكذلك في أغلب المهرجانات المسرحية في العراق، مثلاً عبر ما يسمى "الجلسة النقديّة" التي تلي العمل المسرحي في اليوم الثاني إلا ما ندر.
بالتأكيد لأنّ هناك حالات شاذة تتميز بالنقد الموضوعي العلمي القائم على الدراية والواعي والذائقة وثقافة الناقد في تحليل الأعمال الإبداعيَّة.
وسأعلق على المستوى الأخير من النقد، لأنه يقوم في أغلب الأحيان على مبدأ اجتماعي أكثر مما هو ثقافي، فهو نقد يميل إلى المجاملات والأخوانيات -وأعني- نقد المهرجانات المسرحيّة، فمثلاً تحضر لعمل مسرحي وتجد فيه الكثير من الأخطاء والهنات، ولكن في اليوم الثاني يعتلي أحد النقاد منصة الجلسة النقديّة، ويبدأ بامتداح العمل والممثلين والمخرج والكاتب بفرضية العلاقات التي تجمعهم بخاصة في ظل انتشار ظاهرة "الدعوات للمهرجانات" على وفق معادلة "ادعوني وادعوك" التي لا تقيم أي وزن للإبداع والتخصص.
فماذا يعني أن يكون مخرج أو ممثل في لجان النقد في المهرجانات المسرحيّة؟، وثمة العديد من النقاد المتخصصين في مجال النقد المسرحي سواء كان على المستوى الأدبي الإبداعي من الموهوبين، أو حتى على المستوى الأكاديمي، وهذا ما يشكل قفز واضح وصريح على خصوصيَّة التخصص الأكاديمي وتجربة الممارسة، ناهيك عن دعوات للعديد من النقاد على مستوى الاسم فقط من دون إنجاز ونتاج.
فكيف يكون عضواً في لجنة نقديَّة من لم يحلل عرضاً مسرحياً واحداً في حياته على منصة النقد أو في الصحف والمجلات!.
العملية النقديّة برمتها أصبحت من "مشكلات التزلف والصعود على الاكتاف ونوافذ للامتداح وتلميع النتاج والأشخاص" وهو جزء من الفوضى والخراب الحاصل في نسق الثقافة العربيّة والعراقيّة على وجه التحديد.
هذا النقد أحياناً يسهم بصورة كبيرة بتشكل العديد من المسارات الخاطئة، فكيف تصف "عارضة أزياء أو إعلاميّة أو ممثلة إعلانات" بأنّها مبدعة وهي لم تعمل سوى مرة واحدة، أو لم تقدم غير عمل واحد كان الأداء فيها مخيب للآمال.
وكيف تنتج كتاباً نقدياً كاملاً أبعد ما يكون عن الإبداع والموهبة؟.
النقد أيضا أسهم باعتلاء العديد من الفنانين والأدباء لمنصات الابداع من دون وجه حق، لأنه عمل على تلميع الصورة الأدبيَّة لهم وجعلهم بمصاف الكبار، كما كان يفعل العديد من التعبويين الذين يمجدون الزيف والسلطات من أجل تصويرهم للجمهور على أنّهم رعاة الحقيقة وأملهم المنشود.
التعبويّة ذاتها تتكرر بصورتها الثقافيّة هذه المرة مما يخيب الأموال من وظائف النقد الحقيقيّة التي يجب أن تميز الإبداع الحقيقي عن الواهن والواهم.. علينا أن نفرز ما بين المبدع والموهوب الحقيقي ومابين الموهوم بإبداعه من منطلق مسؤولية ثقافيّة وأخلاقيّة.