أنسنة العنف

منصة 2024/06/12
...

 ميادة سفر

حوّلت وسائل الاتصال والإعلام لا سيما المرئية منها، بما فيها السينما العنف إلى أمر اعتيادي ومشهد مألوف لدى الكثير من البشر ونشاط إنساني كغيره من الأنشطة التي يمكن أن يقوم بها الإنسان. قليل من التأثر يمكن أن ينتاب البعض لدى مشاهدة مناظر القتل والإجرام في الأفلام والمسلسلات، التي أصبحت من أكثر المشاهد حضوراً عبر الشاشات والأكثر طلباً ومبيعاً، واستتبع الأمر التآلف مع مشاهد العنف الحقيقيّة التي تبثها القنوات أو تلك التي نشاهدها على أرض الواقع، متحولة إلى خبر عاجل عادي ننتقل منه إلى مشهد آخر كوميدي أو تراجيدي أو حفلة غنائية أو برامج فكاهية، ولم يقتصر الأمر على تلك النواحي، بل وصل إلى ألعاب الأطفال وبرامجهم التلفزيونيّة وألعابهم الإلكترونيّة، التي ترتكز أغلبها على ألعاب عنفيَّة، فلنا أن نتخيل ماهية الأجيال المقبلة وما سينشأ عن هذه الأسس التي تربّى عليها!!.  وصل العنف إلى اللغة المتداولة بين الأفراد، فأصبحت الألفاظ أكثر قسوة بما تضمره من رفض للآخر ورغبة في إقصائه والقضاء عليه، وتحول التهديد والوعيد إلى أكثر السلوكيات استخداماً في مجتمعاتنا، وغدا التنمّر والضرب والسخرية والتحرّش الأكثر حضوراً في المدارس وفي الشارع والبيوت، وتحولت إلى ما يشبه حواراً عادياً، وبات طبيعياً أن تسمع نعوتاً سيئة وشتائم وضرب بين الأصدقاء على سبيل المزاح كثيراً ما يتحول إلى شجار بما يتخلله من أذى للأطراف والمحيطين بهم.
يبدو أنّنا تعودنا على كثيرٍ من أشكال العنف التي تجري من حولنا، لدرجة لم نعد نستهجن عرض الجثث على الشاشات وفي الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي من دون احترام لحرمة ذلك الجسد، فلم تعد جرائم القتل التي كنا نسمعها فيما مضى عبارة عن عملية طعن بآلة حادة أو طلق ناري بل تحولت إلى تشويه للجثة وتمثيل بها وتقطيع لأوصالها، وكأن من يقوم بالفعل إنما ينتقم من إنسانيته التي وصم بها، كأنّه يعود إلى حيوانيته الأولى، لقد تعودنا على تلك الوحشيَّة التي تعمُّ العالم، وأنسنّا العنف ليصبح أحد صفات الإنسان المقبولة اجتماعياً وفكرياً وثقافياً.
في روايته "أعدائي" يقول الكاتب السوري ممدوح عدوان: "تعرف ماذا تعلّمنا يا أبي؟ ذات يوم شرحوا لنا في المدرسة شيئاً عن التعود، حين نشم رائحة تضايقنا فإنّ جملتنا العصبيَّة كلها تتنبه وتعبّر عن ضيقها، بعد حين من البقاء مع الرائحة يخف الضيق.. يعني أنّ شعيرات الحساسيّة قد ماتت ولم تعد تتحسس.. نحن لا نتعود يا أبي إلا إذا مات فينا شيء".  
ولنا أن نتصوّر حجم الأشياء التي ماتت فينا، والمشاعر التي دفناها حتى تعودنا على كل ما يجري حولنا من عنف وتوحّش، لقد فقدنا الكثير من إنسانيتنا وتعاطفنا حتى صرنا نتقبل الإذلال بكل صنوفه، ونرضخ للتعامل المهين الذي نتعرّض له نحن وغيرنا.