ضوءٌ في قصر كئيب

منصة 2024/06/13
...

 رضا المحمداوي


أُصيبت الدراما العراقية بعقدة التسويق الخارجي لنتاجاتها وأخفقت في إيصال البضاعة الدرامية إلى أسواق الدول القريبة منها والبعيدة على حد سواء، وجرّبَ أصحاب القرار الفني والقائمون على شؤون الدراما العديد من الحلول والمعالجات لتجاوز ذلك والتخلّص من جميع أو بعض تبعاتها التي أبقت الدراما العراقيّة حبيسة القنوات التي تنتجها، ولمْ تفلحْ حتى تسويق نفسها إلى القنوات المحليّة التي تُعدُّ بالعشرات، لا سيِّما القنوات الرئيسة الكبرى المعروفة والمعنية بشؤون الإنتاج الدرامي العراقي.

وفي خضم ذلك تَوَهّمَ البعض من الباحثين عن المعالجات إلى أَّن الحل يكمن بالاستنجاد بقدرات وطاقات المخرجين من السوريين واللبنانين والمصريين، والاستعانة كذلك بالنجوم والممثلين العرب ووضع صورهم في واجهة أو صدارة تايتل المسلسلات ليفتح شهية الأسواق العربية لشراء البضاعة الدرامية العراقية الكاسدة.

وتحت عنوان هذا الوهم الجميل كانت قناة "العراقيّة" قبل عشرة أعوام قد خصّصتْ موسماً درامياً كاملاً للمخرجين والممثلين من سوريا ومصر على أمل إنقاذ الدراما من معضلة التسويق المزمنة، لكن ذلك الموسم بأكملهِ قد أخفق فنياً وبقيتْ نتاجاته حبيسة أدراج القناة يعلوها غبار الأرشيف.

ولمْ يقتصر الأمر على قناة العراقيّة، بل سَعَتْ بعض القنوات الفضائيّة الأخرى إلى تجربة حظها، ومنها على سبيل المثال قناة "هنا بغداد" التي عَرَضَتْ مسلسل "صفين لولي" للمخرج صفاء عيدي وإنتاج إحدى الشركات وتعاون ثلاثة من المؤلفين على كتابتهِ، أمّا التمثيل فقد اشتركت نخبة من العراقيين مع مجموعة من الممثلين المصريين.  

وسبق لقناة "العراقيّة" أنْ عَرَضَت مسلسل "زواج سفر" وهو من تأليف السوري فادي الحسين وإخراج شفيق محسن الذي أخرج الجزء الأكبر من المسلسل، حيث تدور أحداثه في سوريا ومثّلَ فيها كل من "سامي قفطان وسمر محمد" ومعهم من سوريا "اندريه سكاف وعبير شمس الدين"، أما محور الأحداث التي دارتْ في بغداد ومثَّلَ فيها "حيدر منعثر وزهرة بدن" أخرجها صباح رحيمة.

وآخر محاولات كسر جليد التسويق للدراما العراقيّة الاستعانة بالقدرات الفنيّة المصريّة، وهو ما قامتْ به قناة "العراقيّة" بإنتاج مسلسل "ضوء أسّوَد" في موسم رمضان الماضي، وهو من تأليف ورشة لشركة نفذت العمل، وإخراج المصري أحمد سامح وتمثيل المصريَّة ندى عادل، ولم تكن هذه الفنانة الشابة بالنجوميَّة والشهرة التي تُمكّنها من رفع مستوى المسلسل وتدفع به إلى الواجهة.

كما أنَّ قصة المسلسل لم تكن بتلك الأهمية والحيوية التي من شأنها أنْ تجذب المتلقي لمتابعتهِ، فكان أنْ أضاع المسلسل طريقَه إلى المتلقي العراقي وبدا غريباً عليه، وقد اختار العمل الفني البناء الدرامي المغلق على نفسه وآثر عدم الانفتاح على الحياة العراقيّة واحتمالاتها المفتوحة ومجريات الواقع وأحداثه الساخنة.

 تشكلتْ بؤرة المسلسل الرئيسة من زواج الفتاة المصريّة "أروى- ندى عادل" من الشاب العراقي "نائل - هيثم العامري" اللذين يعيشان في لبنان، وما أنْ يموت الأخير في حادث سير حتى يأخذ المسلسل بالكشف التدريجي عن شخصياته وأحداثه عبر محاولة التعرّف على تلك الشخصية الغائبة، ويبدأ كذلك بسد فجوات فتحها عن شخصية غامضة بماضٍ عائلي يعجُّ بالعديد من الأسئلة. 

وتتسع الأسئلة ومعها الغموض حينما تكشف "أروى" لصديقتها الوحيدة "سولافة- الممثلة جمانة" بأنّها ورغم مرور خمس سنوات على زواجها إلّا أنّها كانت تعيش مع رجل لا تعرف عنه شيئاً، وأنَّ هناك وصية تركها لها زوجها المتوفي وعليها السفر من لبنان إلى العراق للتعرّف على تلك الوصية وشروطها، وفي بغداد تنتقل الأحداث إلى القصر الكبير المنعزل الذي تعيش فيه أم نائل "دجى- آلاء نجم" مع "مروان - سعد عبد المجيد" و"سارة - سولاف جليل"، ويكون دليلها في تحركها في بغداد والتعرّف على أسرار وخفايا القصر هو المحامي "عبد الحميد النجار- إياد الطائي" ومن بعده ابنه المحامي "باسم- محمد سمير" الذي سرعان ما ينجرف مع "أروى" في قصة حب.

لمْ تنجحْ ورشة التأليف والسيناريو التي كوَّنتها الشركة المنفذة في اختيار القصة أو في اِلتقاط الفكرة الرئيسة للمسلسل وكأنّي بضوء أسود لا يريد أنْ يكشف شيئاً أو يسلّط الضوء حتى لو كان خافتاً على موضوعة أخلاقيّة أو فكرة فلسفيّة أو ثيمة درامية واضحة الملامح.

ونظراً لاعتماد المسلسل على مفردات وتفاصيل القصر المنعزل الكئيب وتحديد رسم الهدف البعيد المتمثل بمحاولة الكشف عن الغموض والإبهام الذي أحاط بالشخصيات والأحداث من دون أيّ ارتباط بالبيئة أو الخصائص الاجتماعية ومن دون أيّة إحالة إلى الواقع الخارجي، فإنّ المسلسل بدا لنا عبارة عن دراما الغموض الفارغ من المحتوى الاجتماعي وبطابع خيالي.

استعار المسلسل الطريقة البوليسيّة في الكشف عن التفاصيل، ولذا سادَ الإيقاع الثقيل في تقطير (المعلومة) الدرامية مع تكرار مشاهد الوحدة المكانية الرئيسة التي هي القصر المنعزل الكئيب، فضلاً عن اعتماد المسلسل على عدد محدود من الشخصيات المتباعدة أو المتفرقة والتي سعى إلى تجميعها للكشف عن قصته الرئيسة عبر جرعات أو نتف درامية مع استرجاع الذكريات والصور القديمة والبحث بين الأوراق، وكان يمكن اختصار وتكثيف الزمن في المسلسل واختصار حلقاته الى ما بات يعرف بـ "المسلسل القصير" من أجل ضمان التشويق والإثارة في مثل هذه 

الأعمال.

الميزة الأساس في عمل المخرج هو هيمنة العوالم الكابية التي تبثُّ الكآبة والجو النفسي الخانق على الأجواء برمتها بدءاً من العنوان "ضوء أسود" ومروراً بتايتل البداية والنهاية التي غلب عليه اللون الأسود، فضلا عن شيوع استخدام اللون الأسود في ملابس الشخصيات الرئيسة وحتى تقنية الـ "فلاش باك" التي اعتمدها المخرج كثيراً جاءت باللونين الأبيض والأسود واختفاء بقية الألوان عنها.. هذا كله جعل إيقاع المسلسل بشكل عام ثقيلاً وخانقاً وضاغطاً على الأنفاس.