د. طه جزاع
في العام 1958 عُيِّنَ نزار قباني سكرتيراً ثانياً في السفارة السورية ببكين أيام الوحدة الاندماجيَّة مع مصر، وأمضى الشاعر سنتين في عمله الدبلوماسي بالعاصمة الصينيَّة في حالة أشبه ما تكون بالخَرَس الشعري، ونضوب القريحة الشعريَّة، حيث لا ذكرى ولا ذكريات، ولا قصيدة ولا امرأة، ولا مقال نثري من نثرياته المدهشة. أيعقل أن شاعراً مثل قباني يمرُّ بمثل هذه التجربة الغنيَّة في بلاد جميلة متنوعة، من دون أي أثر شعري أو نثري أو حتى مجرد أثر إنساني أو شخصي؟. ماذا كان يفعل في الصين، هل اكتفى بعمله الوظيفي الروتيني ونَسِيَ أنه شاعر؟.
في عمله النثري "قصتي مع الشعر" يكتب قباني عن تلك السنين قائلاً "إنني أظلم الصين إذا تحدثت عنها كشاعر، وأطوّق عنقها بالزهر، كتجربة من أعظم تجارب البشريَّة، إذا نظرت إليها كمثقف. من زاوية الشعر، ظلت الصين خارج مرمى حواسيّ الخمسة، ولم أستطع – بسبب طبيعة النظام وقسوة القيود المفروضة على الدبلوماسيين – أن أتواصل مع الإنسان الصيني، وأدخل في أيِّ نوع من أنواع الحوار معه. إنَّ جدار الصين الكبير، ليس جداراً تاريخيَّاً، أو رمزيَّاً ولكنّه جدار حقيقي لا يسمح لغير الصينيين باختراقه". ثم يوضح أن زهور الشحوب تفتحت في الصين على دفاتره وكبرت حتى صارت أوراقه غابة من الدمع، وهذه الإيقاعات الرماديَّة، تُسمع بوضوح في قصيدتين من أكثر قصائده شحوباً، وهما "نهر الأحزان " و "ثلاث بطاقات من آسيا".
كما يشير إلى أن مولد الحزن والانطوائيَّة التي غرق فيها عامين كاملين في الصين ساعدته على تقمّص جسد امرأة شرقيّة، محاصرة بأسوار التاريخ، وعصبيّات الجاهليَّة، وسكاكين القبيلة. "وكان من آثار هذا التقمّص الدراماتيكي العجيب، كتابي يوميات امرأة لا مبالية الذي طُبع في بيروت عام 1968 أي بعد عشر سنوات من كتابته".
لم يأتِ ذكر الصين في شعر نزار إلّا في مواضع قليلة وربما نادرة، منها ما جاء في قصيدة الرجل الثاني: ألا تقولينَ.. ما أخبارُها سُفُني؟ / أنا المسافرُ في عينيكِ دونَ هُدى / حملتُ من طيَّبات الصين قافلةً / وجئتُ أطعمُ عُصفُورينِ قد رقدا. أو ما جاء من مبالغاته، أو "ملخياته" بحسب تعبير الناقد المتقاعد حمزة مصطفى!، في كتاب الحب: حين أكون عاشقاً/ أجعل شاه الفُرس من رعيتي/ وأخضع الصين لصولجاني. ومنها أيضاً، زيديني عشقاً: وجعي يمتدُّ كبقعة زيت من بيروت إلى الصين، والتي غناها كاظم الساهر واشتهرت بكلماتها الجديدة: وجعي يمتدُّ كسرب حَمامٍ من بغداد إلى الصين!.
البلاد الواسعة التي يتحدث عنها قباني بكآبة قاتمة وحزن وسوداويَّة هي صين نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي، أيّام المجاعة الكبرى والقيود الصارمة المفروضة على الصينيين وعلى الأجانب والبعثات الدبلوماسيَّة، وهي غير الصين التي بدأت بعد منتصف السبعينيات عهد الإصلاح والانفتاح، فقد كان من سوء حظ البلاد أن يتعرّف عليها شاعر مرهف الأحاسيس في سنواتها العجاف وتترك لديه مثل هذا الانطباع السلبي: "حصادي الشعري في الصين كان قليلاً، وعطائي فيها كان نوعاً من الاستقاء من المياه الجوفيَّة للذاكرة الشعريَّة. اللون الطاغي على المرحلة الصينيَّة من حياتي هو اللون الأصفر، إنَّ الأصفر لون عميق وهادئ ومتحضّر. وفي هذا الزواج بين اللون الأصفر وبين نفسي، وُلد طفل جميل اسمه الحزن".
هكذا يتحدث قباني بأسى عن تلك المرحلة التي جفت فيها ينابيع الشعر، ولم يبقَ منها شيء سوى اللون الأصفر والكآبة والحزن، فقد ذهب الشاعر إلى المكان غير المناسب، في الزمان غير المناسب. وما أكثر الأوقات التي تجفُّ بها الذاكرة الشِعريَّة.