«الصباح» في جنوبي لبنان.. حكايات صمود النازحين ومعاناتهم

ريبورتاج 2024/06/13
...

 بيروت: جبار عودة الخطاط 

يجلس الحاج محمود على دكة مدخل البناية، وهو ينفث دخان سيجارته متعقبًا إياه، وكأنه يبحث فيه عن شيء ما، شيء أثير إلى نفسه التواقه إلى أرض الآباء جنوب لبنان، حيث مسقط القلب ومهوى الروح، ربما كان يستذكر عبر دخان سيجارته دخان القصف الصهيوني، الذي صبَّ جام حقده على مناطق الجنوب الوادعة ببساتين زيتونها المثمرة ومساحاتها الخضر المكتنزة بجمال الطبيعة الآسر!

 نسأل الحاج محمود الذي جاء مع عائلته الى الضاحية الجنوبية لبيروت، بعد القصف  الصهيوني على قضاء مرجعيون، حيث بيته الذي قُصفَ قسمه العلوي:

* ماهو الفرق بين بيروت، والجنوب يا حاج؟

بجيب بعد أن يجتر نفسًا عميقًا:

-أووو الفرق كتير !

ليطرق بعدها برأسه مستغرقًا في صمت قطعناه بسؤالنا عن رحلة نزوحه فقال:

“صعبة جدًا لحظات القصف الإسرائيلي التي عشتها مع عائلي قبل أربعة أشهر”، يشدد الحاج على أنه ما كان ليخاف على نفسه من القصف المعادي وقد بلغ من العمر عتيًا، لكن خشيته كانت على أسرته، لا سيما الصغار منهم هو الذي دفعه لذلك ..يضيف:

-”أردت نزوحهم وبقائي أنا هناك في البيت بمرجعيون، في الأخير اصطحبتهم نزولًا عند إصرارهم بالمجيء معهم”.

سألناه عن قصة نزوحه فقال:

“بعد صلاة المغرب بحوالي ساعتين

كانت العائلة تجلس في المنازل وكنت أحتسي القهوة كالمعتاد.. منزلنا مؤلف من  طابقين، والعائلة عادة تمارس طقوس حياتها اليومية في الطابق الأول..فجأة سمعنا دوي قصف من بعيد تردد صداه في أرجاء المنزل، بعدها ساد الهدوء لبعض الوقت، تلا ذلك عصف شديد هز أركان منزلنا، وتسبب بسقوط قسم من سقف الطابق الثاني ..دبَّ الهلع وتعالى الصراخ من بناتي فحاولت تمالك نفسي لأرى ما يحدث وماذا حلَّ بعائلتي”.

يضيف “توجه ولدي على الفور إلى الطابق الثاني ولحقته بخطواتي المتثاقلة؛ فوجدنا حفيدتي مضرجة في دمها”، يتابع الحاج وهو يضغط بشفتيه بقوة على سبجارته:

 “حملها ولدي بين ذراعيه وركضنا بها إلى الخارج كي نحملها عبر سيارتنا  إلى المستشفى، غير ان جار لنا منعنا خشية من أن ترصدنا مسيّرة الاستطلاع الإسرائيلية، وتحسب سيارتنا تابعة لحزب الله”.

يمضي في كلامه “وبعد قليل جاءت سيارة الدفاع المدني وذهبنا بها الى المستشفى وكانت النتيجة إصابة الطفلة بعدة كسور في ساقيها. 

.. بعدئذ أتخذت العائلة قرار ترك البيت والتوجه إلى بيروت كما هو حال العديد من الأسر الجنوبية، التي طالها القصف الإسرائيلي برغم بقاء وصمود عوائل ليست قليلة في البلدات المتاخمة لحدودنا الجنوبية”

تركنا الحاج محمود وتوجهنا إلى جنوب لبنان وقد وجدنا حركة سير اعتيادية على المسارين، عبرنا منطقة (خلدة) التي تقع جنوب بيروت والتي شهدت عام 1982 معارك ضارية مع القوات الإسرائلية إبان اجتياحها للبلاد، مررنا على مناطق (الناعمة) و(السعديات) و(الرميلة)، بإطلالاتها الساحرة على البحر، قبل أن نصل مدينة (صيدا)، التي ما أن تسمع اسمها حتى يقفز الى ذهنك مباشرة (مخيم عين الحلوة) للاجئين الفلسطينيين وما سبق أن شهده من اشتباكات مؤلمة بين الفصائل، أكملنا طريقنا جنوبا فوصلنا مدينة (صور) وكان لافتًا صور الشهداء اللبنانيين الذين ارتقوا إثر المعركة الدائرة مع (إسرائيل) منذ يوم 8 تشرين الأول 2023 والتي توزعت بين أعمدة الكهرباء وعلى جوانب الطريق.

 في مدينة صور التي تغفو على شاطئ البحر الأبيض المتوسط تبدو الحياة طبيعية برغم وجود أعداد كبيرة من النازحين الذين تركوا بلداتهم الحدودية ولجأوا اليها، لكن ما أن تتجاوز صور حتى تلمس الإجراءات الأمنية بشكل أكثر، فالمسافة التي تفصلنا عن الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة حيث تدور رحى الاشتباكات النارية العنيفة بين حزب الله والجيش الاسرائيلي تتقلص، وبالتالي يجب توخي الحذر ومراعاة التعليمات الأمنية.

بداية رحلتنا كانت في صور والنبطية وفوجئنا بحركة الناس والأسواق والمتبضعين، ووصلنا بعدها لبلدات جنوبية متقدمة ورأينا آثار القصف الصهيوني عليها.

يقول النائب قاسم هاشم “رغم ما تعرض له اهلنا في البلدات الجنوبية من عدوان غاشم فأنهم حافظوا على صلابتهم، ولم يستطع العدوان من النيل من عزيمتهم في الصمود، رغم التضحيات والدمار، وهذا خلاف ما نجده في المستوطنات الشمالية للعدو داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة، هناك نلمس  استياء المستوطنين ونقمتهم وعجزهم الكامل من تحمل ما يحصل”، وأكد هاشم الذي كان يقوم بجولة  في منطقة مرجعيون حاصبيا بجنوب لبنان أن “صمود  أبناء الجنوب وتمسكهم بعوامل القوة الوطنية كفيل باجهاض مخططات العدو وصيانة الحق اللبناني في ارضه واستعادة أرضنا المحتلة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا إلى الجزء اللبناني من الغجر وغيرها وصولا للناقورة وحماية لبنان من أي أطماع مستمرة حتى اليوم”.

بدوره أصر النازح (جواد) الذي جاء مع عائلته من بلدة الخيام القطاع الشرقي إلى صور بعد اشتداد المواجهات هناك على أن يقوم بضيافتنا بالقهوة و(المعمول)، برغم قساوة الوضع الذي يمر به ..

قال لنا “ نعم خسرنا الكثير من الأشياء ، وماعادت الكثير من عوامل الراحة موجودة لدينا فنحن بالنهاية تركنا بيتنا الواسع والذي تمتد مساحته لأكثر من 300 متر في منطقة الخيام ونسكن حاليًا في مكان ضيق، لكننا لم نخسر كرامتنا ولن نخسرها ونقول لبعض الساسة اللبنانيين الذين يعترضون على تعويض النازح اللبناني في الجنوب بأن هذه معركتنا ونحن في الوقت الذي نترك بيوتنا ونلجأ إلى أماكن أكثر بعدًا عن الحدود فأن أولادنا هناك في الحدود يرابطون ويستشهدون فليتهم (يسكرون بوزهم). 

أما التربوية فاطمة بيطار من قرية عيترون الحدودية وهي مدير ثانوية حاروف الرسمية فتشير إلى “أن الصعوبات موجودة بالتأكيد والناس لا تستطيع الهروب من هذا الواقع لكن الجهات المعنية مثل حزب الله وحركة أمل وضعت هؤلاء الناس نصب عينها وتقدم لهم ما تستطيع “ تضيف “الناس هنا تعتقد بأنها تدفع فاتورة إنتمائها لهذه الأرض، ولا بد أن تدفعها وهي مهما واجهت من ظروف قاسية تهون أمام تضحيات المقاتلين من أولادنا، الذين قدمزا كثيرا منهم ارواحه على طريق القدس”.

وبانتقالنا لمدينة النبطية تشير النازحة من بلدة كفركلا القطاع الشرقي من جنوب لبنان (مليكة فياض)، والتي تسكن غرفة مستأجرة في النبطية إلى مسألة التكافل الاجتماعي الجميلة في التعاطي مع الأسر النازحة، فتؤكد بأن “الكثير من البيوت في المناطق البعيدة عن الحدود استضافت النازحين بشكل كريم وأصيل، كما أن أصحاب الشقق والمؤجرين قاموا بتخفيض كبير في بدلات الإيجار للأسر النازحة والقسم الآخر أسكنهم مجانًا، فضلًا عن رجال الدين والوجهاء، الذين تكفل الكثير منهم تغطية حاجات الأسر النازحة وبطريقة راقية لا تخدش تعففهم وكرامتهم”، أما الدكتورة  الأكاديمية (فريال الحاج دياب) فتشير إلى أن “جنوب لبنان، مشهود له في مقاومة الاحتلال الإسرائيليّ. 

وهو عاشق للكرامة، نعم أبناؤه اليوم يعانون من سوء الأحوال، في ظلّ حرب وجوديّة مفروضة، أرخت بثقلها على المنطقة برمّتها.

فالقصف الإسرائيليّ مستمر، وبشكلٍ يوميّ. المدارس مقفلة، والأعمال متوقفة، والحياة شبه مستحيلة في قرى الشّريط الحدوديّ” وتستطرد الدكتور فريال”

في ظل هذا الواقع الصّعب، لم يقف أهلنا في هذه المناطق مكتوفي الأيدي، بل سارعوا لتأليف لجان محليّة تسعى جاهدة إلى إعادة الحياة لجنوبنا الحبيب.

وقد عملت بعض الجمعيات الأهليّة على دعم المدارس لكي تتابع رسالتها التّعليميّة، حتى وإن كان عبر التعلّم عن بُعد. كذلك سعت لمساعدة المستشفيات والمستوصفات، ودعمت دورها الكبير في أعمالها الإنسانيّة، وتقديم الطبابة والإسعافات اللّازمة لكل المحتاجين. 

وكانت الوقفة البطوليّة من خلال مبادرة أهلنا المغتربين، الذين لم يتوانوا في إيصال الدعم، وبكل الوسائل المتاحة، من أجل صمود أبناء الجنوب، ومساعدتهم على تخطي هذه الأزمة.

ولم يقتصر التّعاون على الجانب المادي فحسب، بل تخطاه ليكون دعمًا معنويًّا ونفسيًّا، فكان التّآزر والتّآخي، للتخفيف من آثار فقد الأحبة، وسيطرة مشاعر الخوف والقلق التي يعاني منها العديد من الأشخاص خاصة الأطفال”، وتختم بقولها “لا يكفي التّضامن المحليّ، يجب تحويله إلى قضية وطنيّة، يتشارك فيها كلّ أبناء الوطن من أقصاه إلى أقصاه. 

وعلينا جميعًا العمل على تظهير الصورة الحقيقيّة لما يجري على أرض الجنوب، ولحجم المعاناة التي يرزح تحت وطأتها سكان الجنوب، والعمل على كسب التّأييد الدوليّ لدعم صمود السكان المتشبثين بأرضهم”.

 هذا وتشهد الحدود الجنوبية للبنان مع فلسطين المحتلة اشتباكات ضارية بين حزب الله والجيش الاسرائيلي منذ يوم 8 تشرين الأول عام 2023 حيث يقوم الحزب بعمليات عسكرية وصفها بالمساندة للمقاومة في غزة، بينما يقوم الجيش الإسرائيلي بعمليات قصف يومية لجنوب لبنان، مما تسبب بحركة نزوح كبيرة من البلدات القريبة من شريط الحدود، 

وتشير إحصائيات من قبل جهات رسمية بنزوح أكثر من 140 ألف مدني من المنطقة الحدودية مقابل 60 ألفاً، ما زالوا في مناطق النزاع كما تم إقفال 75 مدرسة رسمية وخاصة وتضرر 790 هكتاراً من الأراضي الزراعية و340 ألف رأس ماشية وتهديم حوالي ألف وحدة سكنية وأضرار بحوالي 100 ألف وحدة أخرى.