باريس/ صلاح سرميني
يستكشف المصور الفوتوغرافي الفرنسي آلان بوتينيّون، ثيمة الأماكن العابرة في باريس، وينجز بورتريهات للفنانين، من خلال أعماله الشخصية، اذ تحظى صوره الفوتوغرافية بمكانةٍ في "متحف كارنافاليه" التابع للمكتبة الوطنية الفرنسية. في كتابه "سينمات الأحياء، الصالات المُظلمة في مدينة النور" الذي صدر في عام 2006، ويتكوّن من 154 صفحة، يتساءل: "كم صالة باريسية مظلمة، تمكنت عبر العقود من الاحتفاظ بنمطها، وأصالتها؟ أين هي الآن سينمات الأحياء التي غذّت مشاعر أجيالٍ من المتفرجين، تلك الأماكن الأسطورية التي كانت بالنسبة لمخرجين، على شاكلة: تروفو، وغودار، وشابرول، بمثابة مقاعد دراستهم، وسمحت برمجتها بمشاهدة سينماتٍ من كلّ أنحاء العالم.
في عتمة صالة، يبدو بأن الزمن يتوقف عند ديكوراتها المشحونة بالتاريخ، وحيث لا يُضاهى سحرها".
في الوقت الذي تحولت العديد من صالات السينما الباريسية إلى مُجمّعات متشابهة، ظلّ البعض منها شاهداً على عوالم حميميّة لا غنى عنها.
من عاش تجربة عروض سينمات الأحياء تحت زخرفات مسرح على الطراز الإيطالي، أو في ديكور من الفنّ الحديث، يدرك تلك الروح الإضافية التي تنبثق من أجوائها.
وليس من قبيّل المصادفة ان هذه الصالات بالتحديد، المُستقلة تماماً، هي التي تغذّي التنوّع المُذهل لعروض الأفلام التي تبتهج بها باريس، وتفتخر.
وبينما تعتمد دوائر التوزيع الرئيسة بشكلٍ أساسيّ على نجاحات شباك التذاكر، غالباً ما تُقدّر هذه الصالات المُستقلة أفلاماً عالية الجودة، ما يحفزّ بعض روّادها على الرغبة بممارسة العمل السينمائي.
أليس بالفعل، وفي ظلام هذه الصالات، بدأ، ويبدأ كل شيء؟ هناك بالضبط تروفو، غودار، رومر، شابرول، وغيرهم انطلقوا منها، وفيها بدأت دروسهم الأولى في شغف السينما، وتعلمها؟
من بين أهداف هذا الكتاب تخليد أجواء صالات السينما هذه، والتي تمتلك كلّ واحدة منها شخصيةً خاصة، وقد سبق أن عرف البعض منها عرضها الأخير/نهايتها، وتحوّلت إلى أنشطةٍ جديدة (مسرح، متجر أحذية...)، ولكن، لحسن الحظ لم تفقد كلّ شيء من ماضيها، وهي على الأقلّ احتفظت بديكوراتها الأصلية.
بينما صمدت صالات أخرى تمزج ما بين الماضي والحاضر، وهي دائماً على موعدٍ مع المُخلصين للشاشة الكبيرة.
وتمثل هذه الأماكن المليئة بالمشاعر أجيالاً من المتفرجين أكثر من مجرد تراثٍ معماري، اذ تسهم في جعل باريس مدينة سينما بحقّ.
صالة أسطورية
يخصص الكتاب بعض صفحاته لأفضل وأجمل الصالات، منها: "ركس الكبرى" في الدائرة الباريسية الثانية، وهي بالنسبة لعددٍ كبير من الشغوفين تُوقظ الذاكرة المحفورة إلى الأبد عن ارتياد السينما، اذ يعود تاريخها إلى أوائل ثلاثينيّات القرن العشرين، عندما قرر المُنتج الثريّ "جاك هايك" (الذي اشتهر بتقديم أفلام "شارلي شابلن" في فرنسا) إنشاء أجمل صالة في باريس تمنح وهم مشاهدة الأفلام في الهواء الطلق، وقد تحقق حلمه فعلاً بفضل سقفها المُرصّع بالنجوم، وزخارفها الشبيهة بالفيلات، والشرفات الإسبانية.
افتتحت الصالة أبوابها في مساء 9 ديسمبر/ كانون الاول من عام 1932، وكانت وقتذاك تتكوّن من صالةٍ واحدة بسعة 3200 مقعد، وشرفتيّن، وخلال سنوات الاحتلال، تمّ الاستيلاء عليها كي تصبح مخصصة للقوات الألمانية.
في أكتوبر/ تشرين الاول عام 1944، تخلصت واجهتها من الكلمات الألمانية، وتمكنت من إعادة فتح أبوابها للجمهور، ولكن مع انقطاعٍ جديد بين أبريل، ويونيو 1945 للسماح باستقبال المُرحلين، وأسرى الحرب في باريس.
ثمّ جاءت الخمسينياّت من القرن الماضي، وأصبحت أكثر مجداً، وشهرة، وبينما انتصرت على الشاشة العروض الحصرية، وخاصةً الأميركية، إلاّ أنها في عام 1957 أثارت ضجة كبيرة مع افتتاح "غاري كوبر" لمصعد السلم الكهربائي الأول من نوعه في فرنسا تلك الفترة.
في عام 1963 قدم فيها "هيتشكوك" فيلمه "العصافير"، وتابعت الصالة بناء أسطورتها، وإنشاء العديد من الصالات الإضافية، والأكثر طرافة تنظيم جولة مرحة في كواليسها بعنوان "نجوم ركس".
في عام 1974 تخلت عن مقصوراتها التي كانت مخصصة للفنانين، واستبدلتها بثلاث صالات صغيرة، وبين عاميّ 1984، و1990 أضيف إليها أربع صالاتٍ أخرى، وبفضل طرازها المعماريّ، فقد تمّ تسجيلها عام 1981 في قائمة المواقع التاريخية، وأصبحت غير قابلة للهدم، أو التحويل، وفي عام 1983 استقبلت حفل توزيع جوائز السيزار.