سلطان العاشقين جلال الدين الرومي

منصة 2024/06/26
...

 قونيا:
محمد حسين الداغستاني
 تصوير: منهل محمد

قد يكون من النادر من لم يسمع أو يقرأ عن مدينة قونيا التركيَّة الشهيرة التي تبعد عن العاصمة أنقرة بأكثر من 270  كم، وعن اسطنبول 428 كم، فهي مدينة كانت عاصمة للسلاجقة في العام 1097 ثمَّ باتت واحدة من أهم مدن وسط الأناضول، وبعد سقوط الحكم السلجوقي في العام 1307 تحولت إلى مركز الإمارة الكرمنلي ثم جعلها السلطان محمد الفاتح مركزاً للولاية العثمانيَّة، وهي مدينة ذات طابع ديني محافظ يقصدها ملايين السياح والزائرين من شتى بقاع العالم وقد أدرجتها اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي.
حالما وطئت قدماي المدينة وجدت نفسي في عمق يحاصرني التاريخ فيها عبر الكثير من المعالم الحضاريَّة والدينيَّة المهمة، فضلاً عن الشوارع الحديثة والجسور المتداخلة والحدائق التي تعجُّ بالحركة وتنبض بالحياة. ولا شك في أن من أبرز هذه المعالم ضريح ومتحف العالم المتصوف الشهير "مولانا" جلال الدين الرومي "سلطان العاشقين" ومؤسس الطريقة المولوية الصوفية (۱۲۰۷ - ۱۲۷۳) والذي تدين له المدينة بشهرتها، خاصة أنّه هدف لنحو مليوني زائر سنويّاً، كما ويرتقي جامع علاء الدين قمة تلة تتوسط المدينة الى جانب بحيرة بيه شهر وحدائق الفراشات والعدالة واليابانيَّة.  عبر باب المبنى الكبير قطعت حديقته الجميلة باتجاه غرف متحفه المتراصّة واحدة تلو الأخرى، في خضم زحام كبير يضمُّ أناساً وزواراً ووفوداً ومجموعات من مختلف جنسيات العالم. وكان قد استقبل المتحف في مناسبة الذكرى السنويّة لوفاة "مولانا" التي تصادف اليوم السابع عشر من شهر كانون الثاني من كل عام أكثر من ٤٠ ألف زائر، وبذلك فهو يحتل المرتبة الثالثة بعدد زواره بعد كل من متحفي طوب قابي وآيا صوفيا في اسطنبول.
في المبنى كانت هناك موسيقى صوفيَّة هادئة تصاحبني حيثما دخلت غرف المتحف أو صالة الضريح وكأنّي في حلقة دروشة صوفيَّة.. في الغرف أدوات وملابس مولانا ومصاحف ولوحات قديمة مكتوبة بخط اليد، ومخطوطا قديما لكتابه "المثنوي" وشاهدت على إحدى المناضد صندوقاً صدفيّاً يحتوي على بضع شعرات من لحية الرسول الكريم محمد ﷺ.

لغة الإيماء طاقة للتغيير
غير بعيد عن مبنى المتحف يقع المركز الثقافي لمولانا حيث تقام فيه أيّام السبت من كل أسبوع حفلات "سما" أو الرقصات المولويّة، وفي ذهول شديد تابعت هذه الممارسة الجسديَّة والروحيَّة لدى مريدي الطريقة المولوية ذات دلالات دينيَّة عميقة، حيث كان الراقصون يدورون حول أنفسهم بنسق جميل ودقيق في غاية الروعة والجمال بطرابيشهم وتنانيرهم الطويلة الفضفاضة البيضاء وأعينهم وأيديهم مصوبة نحو السماء في حالة ولهٍ صوفي طيلة تسعين دقيقة بالكمال والتمام، يترجمون بلغة الجسد والإيماء ما كان يتحدث به الرومي عن الطاقة التي تتمتع بها قوة التغيير، والقضاء على الروتين الحياتي بالحب الذي يجعل الإنسان يتحرك نحو المطلق في حال استخدامه بالشكل الصحيح، وكذلك الحال مع الجاذبيّة والنمو والإنجاب. وهو في كل ذلك له كتابات وأقوال لا تزال حيّة الى يومنا هذا ومنها "القوة التي تضَع حبّات الرمانِ، واحدةً واحدةً داخلَ قِشرتها، تعلمُ في أيّ قلب تَضعك، فلا تقلق"، "ارتقِ بمستوى حديثك لا بمستوى صوتك، فالمطر هو الذي ينمّي الأزهار وليس الرعد"، "فيما مضى كُنت أحاول أن أُغير العالم، أما الآن وقد لامستني الحكمة، فلا أحاول أن أُغير شيئاً سوى نفسي".

حلم يتحقق
ديميت نازلي، سيدة رفضت تصويرها، لكنّها أجابت عن سؤالي ومكان قدومها؟، والدموع في عينيها "إنّها من مدينة أورفا جنوب تركيا، وإن هذه الزيارة مع زوجها إلى ضريح مولانا حلم حياتهما".
لقد مات مولانا في العام 1273، لكنه لا يزال إلى يومنا هذا يلهم قاصديه أسرار العشق الإلهي المقدس، ويضفي على مدينة قونيا هالة
من الروحانية والقداسة، ويكرّس في الذاكرة صوراً لا يمحوها قابل
الأيّام.