عماد عبد السّلام رؤوف.. جلالُ العلمِ

منصة 2024/06/27
...

 حسين محمد عجيل

هو صاحب السيرة المعرفية الحافلة بالمنجز النوعي، استثمرَ كل سني عمره بأيامها ولياليها وساعاتِها ودقائقها، في إغناء المكتبة العراقية والعربية بأكثر من مئة وثلاثين كتابا، معيدا بثراء هذا النتاج وفرادته، إلى ذاكرة المعاصرين، مآثر علمائنا الأفذاذ ببغداد في أزهى عصورها العباسية.. وهو آخر الموسوعيين الكبار في زماننا، وأعده شخصيا واحدا من أبرز امتدادات الجيل الذهبي لرواد النهضة في العراق، أمثال الشيخ محمود شكري الآلوسي والأب أنستاس الكرملي والدكتور مصطفى جواد وعباس العزاوي والدكتور جواد علي والدكتور أحمد سوسة، وهو بعد من العلماء العاملين الأفذاذ، تجسد في عروجه المعرفي جلال العلم في ذروة استثنائية من ذراه، وتجلى تواضع العلماء في سلوكه على أتم ما يكون التجلي.

والدّكتور عماد عبد السّلام رؤوف "المولود في الأعظميّةِ ببغدادَ يوم الجمعة 9 كانون الثّاني 1948م- والمُتوفَّى بأربيلَ يوم الأحد 27 حزيران 2021" الّذي نستعيد هذه الأيّام سيرته في ذكراه الثّالثة، كما ينبغي على أصحابِ الضّمائر من الأُممِ الحيّةِ حيالَ الكبارِ من رُموزِها، أكاديميٌّ رصينٌ مُختصٌّ بتاريخِ بلادِه في العهدِ العُثمانيّ، وهي أعسرُ حِقبةٍ من حِقبِ تاريخِه، وأفقرِها إلى المعلومةِ والوثيقةِ، فلا يجدُ الباحثُ فيها ما يجدُه في غيرِها من كثرةِ المصادرِ وتنوُّعِها.

وكانَ يسعُهُ وهو سليلُ أُسرةٍ عريقةٍ عبّاسيّةِ النّسبِ، أن يختصّ في أحد العُصور العبّاسيّة المُكتنزةِ بالمصادرِ، وأحسبُ الفقيدَ اختارَ هذه الحقبةَ الموصوفةَ بالمُظلمةِ لهذا الفَقْرِ المُدقعِ في مصادرِها مُتحدّيًا قُدراتِه، فأغناها بعشراتٍ من الكُتُبِ والبُحوثِ والدّراساتِ غير المسبوقةِ، بعد أن استكشف للمُختصّين فيها مناجمَ من مصادرِ المعلوماتِ غيرِ المُتوقّعةِ عنها، وجدها بعدَ تحرٍّ وتفحّصٍ طويلين، وجُهدٍ غير مسبوقٍ، في مخطوطاتٍ مجهولةٍ قضى أعوامًا في استكشافِها وفهرستِها، وبعضُها تحتجنُه أسرٌ علميّةٌ عريقةٌ في بغدادَ وأُمّهاتِ مُدنِ العراق، أو في كتاباتٍ شبهِ مطموسةٍ على جوامعَ ومبانٍ أثريّةٍ، أو في وثائقَ مطويّةٍ مخزونةٍ في دوائرِ الأوقافِ والمحاكمِ الشّرعيّةِ في بغدادَ والمَوْصِلِ، وعثرَ عليها تارةً في وثائقَ لا تُحصى عددًا في اسطنبولَ عاصمةِ الدّولةِ العُثمانيّةِ، وأماطَ عنها النّقاب طورًا في وثائقِ عصرِ المماليكِ بمصرَ وعصرِ مُحمّد علي باشا في دارِ الوثائقِ القوميّةِ والتّاريخيّةِ بالقاهرة، وجمعَ مُعطياتِها المُتناثرةَ أحيانًا من مُذكّراتِ قناصلِ الدُّولِ في ولاياتِ العراقِ الثّلاثِ، أو في ما دوّنه الرّحالةُ الأجانبُ وسِواهم، أو في ما أوردتُه صحفٌ صدرت في أواخر العهد العثمانيّ، وما إلى ذلك ممّا مهَّدَ به سُبُلَ التّأليفِ للباحثين. 

وإذا أردتُ في هذه العُجالةِ أن أضربَ المثلَ بواحدٍ من مُؤلّفاتِه الدّالّةِ على جُهدٍ في مُواصلةِ البحث المُضني والتّتبُّعِ الّذي لا مزيدَ عليه، أضربُ المثلَ بكتابِه الخالدِ "التّاريخُ والمُؤرِّخونَ العراقيّونَ في العهدِ العُثمانيّ"، الّذي كان أصدرَ طبعتَه الأُولى سنةَ 1983، ثُمّ ظلَّ يتعهّدُه بالتّنقيحِ والإضافةِ والاستدراكِ والتّوسيعِ، حتّى استقامَ في طبعته الثّانيةِ الصّادرةِ سنةَ 2009 بـ بخمسِمئةٍ وستٍّ وسبعينَ صفحةً، مرجعًا لا يُستغنى عنه في دراسة هذا العهد، تتبّعَ فيه جُهود ثلاثِمئةٍ وثلاثةٍ وثمانينَ مُؤرّخًا عراقيًّا، كتبوا تسعمئةٍ وسبعةً وعشرينَ كتابًا في التّاريخِ والتّراجِمِ والسِّيَرِ. 

ولو كان الفقيدُ الجليلُ اكتفى بنشرِ هذا المرجعِ وحدَه لكفاهُ فخرًا وفضلًا.. فكيف به وقد أصدرَ من الكُتب ما لم يُنافسْهُ فيه مُنافِسٌ من أبناء بلده في عصرنا.

وأقولُ بموسوعيّته، وهو الأكاديميُّ الّذي عاشَ في زمنِ التّخصُّصِ الدّقيق؛ لأنّه انشغلَ بحُقولٍ معرفيّةٍ شديدةِ التّنوّعِ قلّما جالت الأقلامُ في تُخومِها، لكنَّ قلمَه جالَ مُسلَّحًا بذخيرةٍ نادرةٍ وذكاء مُتوارثٍ، فكتبَ في التّاريخِ، وعلمِ الخِطط والبُلدانيّات، وفهارسِ المخطوطات، وتحقيقِ الكُتُب التُّراثيّة، وترجمةِ الأعلامِ، وفي التّاريخِ الحضاريّ، وفي تواريخِ المُدنِ، وفي دارسةِ الوثائقِ، وتأصيلِ أسماءِ المواضعِ والمحلّاتِ، واستكشافِ بواكيرِ ما صدرَ من صُحفٍ، ودراسةِ الأحجارِ الكريمة، وانشغلَ بالتّحرّي عن مشاريعِ المياهِ القديمةِ، والكشفِ عن إسهامِ النُسوةِ العراقيّاتٍ في الشُّؤون الخيريّةِ والاجتماعيّةِ والثّقافيّةِ، وانهمكَ في أثناءِ إقامتِه في أربيلَ في عقديهِ الأخيرينِ بتتبُّعِ مخطوطاتٍ نادرةٍ تُسلّطُ الأضواءَ على إماراتٍ كُرديّةٍ منسيّةٍ، وتكشفُ ما قدّمه أعلامُ الكُرْدِ للثّقافة العربيّة والإسلاميّة.. وغير ذلك ممّا يُمكن أن يُقدِّمَه استعراضٌ سريعٌ لعُنواناتِ عشراتٍ من كُتُبه ومئاتٍ من المقالات والبُحوث والدّراسات الّتي نشرَها في الصُّحف وكُبرى المجلّات في البلادِ وخارجِها مُنذ شبيبته المُبكرة أواسطَ السّتينيّات من القرن الماضي. 

عرفتُ الفقيدَ من خلالِ ثمراتِ قلمِه أوّلًا، ثُمّ عرفتُه عن كثبٍ نحو عَقْدٍ ونصفِ العَقْدِ، فوقفتُ على جليلِ علمِه ومزيدِ فضلِه وعلى خِصلةِ التّواضعِ فيه شأنَ أفاضلِ العُلماءِ. 

وحينَ كنتُ أُسهمُ في إدارة الوكالة المُستقلّة للأنباء متولّيًا إدارة التّحرير فيها ثمّ رئاسة تحريرها "وهي أوّلُ وكالةِ أنباءٍ مُستقلّةٍ في تاريخِ العملِ الصّحفيِّ في العراقِ، أنشأتْها وموّلتها الأُممُ المُتّحدةُ سنةَ 2004، واستمرّت تُغطّي طوالَ عشرةِ أعوامٍ أحداثَ العراق في السّياسةِ والثّقافةِ والاقتصادِ وتحوّلاتِ المُجتمعِ المدنيِّ.."، استعنّا بخبراتِه مُؤرِّخًا أكثرَ من مرّةٍ، إحداها في مشروعٍ لتوثيقِ التّاريخِ الشّفاهيِّ لبلادِنا من ذاكرةِ كبارِ السّنِّ، وهو مشروعٌ كبيرٌ وغيرُ مسبوقٍ نهضتْ به الوكالةُ، فأسهم الفقيدُ في تدريبِ نُخبةٍ من الصّحفيّينَ والنّاشطينَ المُجتمعيّينَ، وإثراء معلوماتِهم التّاريخيّةِ لكي ينهضوا بمُهمّتِهم.

وكانت مُحاضراتُه غنيّةً ومُكتنزةً بغيرِ المعروفِ من الحقائقِ وبالمُثيرِ من الأفكارِ، وأدهشَ المُشاركينَ بأُسلوبِه السّهلِ المُمتنِعِ وحُضورِه بطلاقتِه وصوتِه المُميَّز وشخصيّتِه المُحبّبةِ. 

ثُمّ جمعتني بالفقيدِ بعضُ المُؤتمراتِ ومحافلُ العلمِ، فكانتْ فُرصةً لتجديدِ اللّقاءِ به. وحينَ تولّيتُ إدارة تحريرِ مجلّةِ "المورد" التُّراثيّةِ المُحكّمةِ الصّادرةِ عن دارِ الشُّؤون الثّقافيّةِ العامّةِ بوزارة الثّقافة، كانَ من أوائل مُقترحاتي أن يستعيد الرّاحلُ الكبيرُ عُضويّته في الهيأةِ الاستشاريّةِ للمجلّةِ، وهو اقتراحٌ لقيَ تجاوبًا مُتوقّعًا من زُملائي، وحينَ اتّصلتُ به رحَّبَ كثيرًا بالتّرشيحِ وأخجلني بثنائِه وجميلِ تواضعِه. 

وحينَ اقترحتُ- مطلعَ سنةَ 2021- إصدارَ عددٍ خاصٍّ من مجلّةِ "المورد" بمُناسبةِ مُرورِ أحدَ عشرَ قرنًا على انطلاقِ الرّحّالةِ البغداديِّ أحمدَ بنِ فضلانَ مبعوثًا رسميًّا من بغدادَ عاصمةِ الخلافةِ إلى مملكة الصّقالبةِ في شماليِّ أوربا الشّرقيّ، في بعثةٍ حضاريّةٍ تُوجّت بكتابٍ رحليٍّ وثّقَ تفاصيلَها، ورأيتُها مُناسبةً تستحقُّ التّخليدَ في بلادِنا، كما خلّدتها جُمهوريةُ تترستانَ في الاتّحادِ الرُّوسيِّ واحتفتْ بها حينَ عدّتْ يومَ وصولِه إلى أراضيها عيدًا رسميًّا للجُمهوريّةِ.. اتّصلتُ بالفقيدِ مُقترِحًا مُشاركتَه في العددِ الخاصِّ، فكانَ فرحُه غامرًا بالفكرةِ، وأثنى عليها، وأبدى حماسًا كبيرًا للمُشاركة في العدد. 

ثُمّ لم يلبث أن بعثَ إليّ ببحثِه الموسومِ بـ "التّجارة والحضارة في مُشاهدات ابنِ فضلانَ"، وذلك مساءَ اليومِ الأوّل من أيّار 2021، وفي مساء الثّلاثين منه بعث بمُلخّصِ البحث بناءً على طلبي، أي قبلَ أقلَّ من شهرٍ على رحيله في السّابع والعشرينَ من حَزِيران 2021، الّذي فُجِع به مُحبّوه وقرّاؤه وعارفو فضلِه، فكان هذا آخرَ بحثٍ نُشر لفقيدنا الجليل في حياته، وظهرَ البحثُ في العددِ الخاصّ، الصّادرِ صيفَ ذلك العام، وكان أوّلَ عددٍ خاصٍّ تُصدرُه هذه المجلّةُ مُنذُ عشرينَ عامًا، وفيه نعيُه الّذي كتبتُه باسمِ هيأة التّحرير، بوصفِه من بينِ أشهرِ الكُتّاب الّذينَ استقطبتْهم المجلّةُ منذُ أوانِ صُدروِها، وعضوًا بارزًا في هيأتِها الاستشاريّةِ، وعالماً عراقيًّا كبيرًا أغنى حُقولَ التُّراثِ بكُتُبِه ودراساتِه وأبحاثِه طوالَ أكثرَ من خمسةِ عقود. 

إنّ من صميمِ واجبنا اليومَ، أن نُطالب وزارةَ الثّقافةِ بإصدارِ طابِعٍ تذكاريٍّ باسمهِ في ذكراه الثّالثة الّتي تحلُّ هذه الأيّام، وتبنّي نشرَ ما لم يُنشَرْ من كُتُبِ الفقيدِ وأبحاثِه، بمُعاودة حثّ أُسرته على تقديم مخطوطات كتبه المُكتملة لكي تُطبع. وأن تُكلِّفَ مُختصّينَ جمعَ نتاجِه الضّخمِ المُتناثرِ في الصُّحفِ والمجلّاتِ وتصنيفِه؛ ليصدرَ في ثبتٍ شاملٍ لعُنواناتها وبياناتِ نشرِها، يُضاف إليه ما كُتب عنه في الدّوريّات ليكون مرجِعًا جامِعًا له وعنه، ثُمّ تُنتقى منها مُختاراتٌ تصدرُ في كُتبٍ مُتسلسلةٍ بحسبِ الموضوعاتِ. وأن تُقيمَ له جامعةُ بغدادَ تمثالًا في كُلّيّةِ التّربيةِ الّتي دَرَّسَ فيها أجيالًا من الجامعيّينَ، يُذكِّرُ أجيالَها الجديدةَ بما قدّمَه بسخاءٍ طَوالَ خمسةِ عقودٍ.