ضجر حسين مردان

الصفحة الاخيرة 2024/06/30
...

محمد غازي الأخرس

في مقالته الرائعة "المشرد الذي غزا بغداد" المنشورة في أحد أعداد مجلة (الأقلام)،  يكتب الشاعر الراحل رشدي العامل عن سفر حسين مردان إلى أوروبا وبقائه هناك لعدة أشهر. كان وصل مردان إلى النمسا، وبقي ضيفا عند القاص ذو النون أيوب، وحين عاد، باغت أصدقاءه في حدائق اتحاد الأدباء ليلا كالبطل. يكتب العامل: "أطلّ علينا بوجهه الأحمر المكتنز، وجسده المنتفخ، وقف في أعلى الدرجات بين الحدائق والطارمة، أجال نظره باستعلاء . لمحناه: هتفنا بصوت واحد: ـ حسين ! هرعنا إليه".
يقول العامل إن صديقه انبثق "من الزبد والريح والمطر ضاحكاً"، وتلقى قبلاتهم وقال: "ـ تره ماكو شي.. ماكو شي حتى بأوروبا، ماكو غير الوطن.. و... الضجر!". ثم أخبر أصدقاءه أنه اكتشف عدم قدرته على مغادرة العراق. سأله رشدي: "ـ حسين لا تكذب، ألم تقض أياماً رائعة في فينا حدثني".  
سكت ثم قال: أسمع يا رشدي. سأقص عليك حكاية. أنت تدري أنني لا أكذب عليك أبداً. كان معي في ذلك المرقص ذو النوب أيوب. إنه شاهد، قلت إن كل شيء كان يشبه الأساطير، غير أنني وقد ثملت، تطلعت إلى الباب، وهمست في أذن صديقي - ها قد جاء صديقنا القديم ..مرحبا، التفت ذو النون فلم ير أحداً، سألني - من؟ لا أرى أحدا، قلت: - صديقنا القديم ..ألا تراه ..صديقنا القديم"، - ولكن من؟ قلت له "الضجر".  
كانت تلك استعارة مذهلة لا تصدر إلا عن رجل ذي خيال جامح، فالضجر يقتحم كل مكان، هو كالموت، سواء بقدرته على اقتحام حياتنا أو بكونه موتاً مجازياً يصيب شعورنا بالأشياء. بعد مجيئه المفاجئ، لن يستطعم المرء شيئا من المباهج المتاحة أمامه. ينهي كل شيء جميل وممتع، هذا الضجر. ولكن مم يتولد ليجعلنا نكتب مثل هذه المقالات الضجرة؟ يتولد من الاعتياد والرتابة وتكرار دورة الأشياء. الأشياء الجميلة تفقد دهشتها الأولى، وتتحول إلى شيء رتيب وممل.
المهاجرون من البلدان التعيسة إلى المنافي "الجميلة" و"المريحة"، أكثر من يعرف هذا الضجر، فبعد فترة قصيرة من الانبهار بالمباني الفخمة والحياة المتطورة، توافر الخدمات، والأمان الشخصي وغير ذلك من المباهج المفتقدة، يبدأ صاحبنا يتسرب كشبح دخاني من مكان ما مثلما خيّل لحسين مردان في المرقص، يبدأ الضجر بغزو النفس فيحيل السعادة إلى اعتياد، والمباهج إلى صور مكرورة لا طعم فيها. حينئذ يشرع المرء في استذكار الطعم الحقيقي للماضي، متسائلاً - هل كان ذلك المكان تعيساً كما كنت أشعر به أم انني توهمت ذلك بسبب ضجري منه؟ لماذا استبدلت ذلك المكان الحقيقي الساخن بكل ما ينتجه من انطباعات بهذا المكان البارد الرتيب؟
هنا يبدأ الجحيم الحقيقي، جحيم اكتشاف وهمية الوهم، الذي لطالما حركنا باعتباره حقيقة. ما كنا نحسه تعيساً يبدأ في إيهامنا أنه على النقيض، وما كنا نظنه مبهجاً يشرع في التكشف أمامنا على أنه تعاسة قادمة. كل ذلك يفعله الضجر، المفهوم الغريب الشبيه بالموت.
من هم الذين يستطيعون النجاة منه؟ أعتقد أنهم الذين ينعدم لديهم الإحساس، ويتحولون إلى "براغي" في ماكنة العالم الرتيب. الناجون من الضجر هم الذين يشيحون ببصرهم عنه حين يدخل مرقص الحياة، يرونه ثم يتصنعون عدم رؤيته. حسين مردان لم يكن كذلك بالتأكيد.