دموع صاحبة الجلَّالة

الصفحة الاخيرة 2024/07/04
...

د. طه جزاع

 لو ألقينا نظرة على تاريخ الصحافة العربيَّة، ومنها الصحافة في العراق، لوجدناها لا تخلو في معظم مراحلها من علاقة ما، إيجابيَّة أو سلبيَّة مع السلطة، تكون أحياناً في خدمة الصحفيين، لكنها تنقلب في أحيان أخرى ضد أهم ما يمكنهم الحصول عليه، وهو الحريَّة، إذ تجد أنَّ السمة الغالبة على ذلك التاريخ الطويل تتمثل في غيابها كلّاً أو جزءاً، إلا في حقب زمنيَّة محددة، وفي بعض البلدان لا كلّها.
فالحريات الصحفيَّة، وحريات الرأي والتعبير، مدوّنة كنصوص قانونيَّة في عموم دساتير الدول العربيَّة، لكنّها في الغالب أيضاً، مجرد مواد دستوريَّة، مُعطّلة أو مُهمَلة أو منقوصة أو غائبة عن أرض الواقع.
إشكالية الانفصال بين النص الدستوري وواقع الحال تبدو ظاهرة إلى الحد الذي تسجل فيه دولاً عربيَّة تراجعاً سنويَّاً ملحوظاً في المؤشر العالمي لحرية الصحافة الذي تصدره منظمة "مراسلون بلا حدود"، ومما يؤسف له أن الكثير من هذه الدول تأتي عادة في ذيل المؤشر.
لكن لهذه الإشكالية جوانب متعددة ومتداخلة، ولا يمكن الاكتفاء بمؤشر عالمي يقيس الحريات الصحفيَّة في هذا البلد أو ذاك، اعتماداً على ممارسات وحوادث مرصودة، لكي نصدر حكماً على مستوى الحريات الصحفيَّة فيها، فحوادث مثل الاحتجاز، أو الاعتقال والتغييب، أو الاغتيال، أو التهديد بملاحقات أمنيّة أو قضائيّة، تمثل بكل تأكيد خرقاً فاضحاً لحقوق الإنسان برمتها ولا تقتصر على الحريات الصحفيَّة، وهي ممارسات تحدث في أكثر من دولة تحمل راية الديمقراطية وتتشدق بالدستور الذي يحمي الحريات على الورق فقط، لكن الأمر الأهم من ذلك هو الحماية المجتمعيَّة، لا سيما في الدول التي تضعف فيها سلطة القانون وتكثر فيها الخروقات القانونيَّة والأمنيَّة من دون أن تتمكن السلطات الحكوميَّة من ملاحقتها واتخاذ إجراءات رادعة تحد منها، وهنا يحضر دور المجتمع الذي يوفر بيئة آمنة للصحفي وهو يؤدي دوره ويمارس حريته المسؤولة بلا خوف ولا مجاملة
ولا تهاون.
كثيراً ما تتخطى العلاقة بين الصحفي والحكومة صيغة العمل الصحفي، ليتحول الأخير إلى صوت للسلطة وطبّالاً لها، وربما أداة لنقل الأخبار إلى السلطة، ومن ذلك ما جسّده الكاتب والصحفي المصري موسى صبري في روايته "دموع صاحبة الجلالة" وقد تحولت إلى فيلم سينمائي عام 1992 أدى فيه الممثل سمير صبري دور الصحفي "محفوظ عَجَب"، الذي يتعرّف في سهرة على راقصة مصر الرسميَّة سوسن رفقي "أدت الدور الراقصة دينا" ثمَّ يزورها في بيتها حين كان بريئاً يطلب شرب الشاي لا الويسكي، فتستقبله بملابس فاضحة ويجلسان متقابلين ويدور بينهما حوار ساخن يتحول خلاله "عجب" من الشاي إلى الكحول والتدخين، وتمضي العلاقة بين الصحفي والراقصة في العمق، لتصف أحوال الصحافة في حقبة الاربعينيات وبداية الخمسينيات قبل ثورة يوليو 1952، وكيف يمكن للصحفي أن يحصل على معلومات مهمّة من راقصة السراي الحكومي، لكن من طرائف الأمور أيضاً، أن أحد المواقع المصريَّة الإلكترونية طرح سؤالاً قبل سنوات: من هو "محفوظ عجب" هذا الزمان فأجاب أحدهم: "شوف مين اللي بيدخن سيجار وصعد، وكان على علاقة مباشرة وشخصية بالسلطة على مر العصور"، فيما أشار آخرون صراحة إلى أسماء صحفيين كبار في
مصر!.