النهضة الحسينيّة
وسام الفرطوسي
الحمد لله الذي منَّ علينا بنعمة الولاية لنبيه وآل نبيه صلوات الله عليهم أجمعين، فجعلهم الشموس الطالعة، والأنجم الزاهرة، وأعلام الدّين وقواعد العلم، صالحاً بعد صالح، وصادقاً بعد صادق، وسبيلاً بعد سبيل.
والحمد لله الذي منَّ علينا من بينهم بسفينة النجاة، ومصباح الهدى، الإمام الحسين بن علي "ع" الذي أُمرنا بإحياء ذكره وإقامة أمره تعظيماً لحقه.
تعدّ حركة الإمام الحسين "ع" نهضة في تاريخ الإنسانية ومحطة من محطات الصراع بين الحق والباطل، وهي حركة متصلة اتصالاً وثيقاً بأعظم الرسالات السماوية على الإطلاق، نعني رسالة النبي الأكرم "ص"، بما تمثّله من معارف وشرائع وأحكام ومفاهيم... ومن هنا قال النبي "ص": (حسينٌ منّي وأنا من حسين أحبّ الله من أحبّ حسيناً).
كان الإمام الحسين بن عليّ "ع"، في نظر الأئمّة والمجتمع، أعظم الخلف ممّن مضى، والبقيّة الباقية من أهل بيت النبوة، وبقيَّة آية التطهير وآية المودّة وآية المباهلة، حتّى عند أعدائه من بني أميّة والمنحرفين عنه، وكان الصحابة والتابعون يطلقون عليه لقب (سيّد أهل الحجاز)، و(سيّد العرب)، والسيّد الكبير الذي ليس على وجه الأرض، يومئذٍ، أحدٌ يساميه ولا يساويه، وكان المخلصون وكلّ مَن أهمّه أمر الإسلام ينتظر منه التحرّك.
وقد كان الصحابة والتابعون وكلُّ مَن تناقل واهتمّ بالحديث النبويّ، يعرف بأنّه سيّد الشهداء، وأنّه يُقتَل مظلومًا في كربلاء، وأنّ شفاعة النبيّ "ص" لن تنال قَتَلَتَه. إنّهم كانوا يعرفون الطاغية الذي يأمر بقتله، ومَن يقود الجيش الذي يقتله، ومَن يحمل الرأس الشريف، ويتداولون الأخبار التي استفاضَت في التحذير من خذلانه، والنهي عن عدم نصرته، ومع ذلك، فقد تجاوب القليل مع الأوامر النبويّة، وتخاذل الأكثر.
لقد عاصر الإمام الحسين "ع"، بعد استشهاد أخيه الإمام الحسن "ع"، عشر سنوات من حكم معاوية، الذي كشف واقع أهدافه، بكلّ صراحة، بعد إبرام وثيقة الصلح مع الإمام الحسن "ع"، ولخَّصَها في أنَّ هدفه هو الاستيلاء على السلطة والسيطرة على الحكم.
وكان معاوية يتدرّج في تنفيذ المخطّط الأمويّ، الذي أفصح عنه أبو سفيان، إذ عدَّ خلافة النبيّ "ص" كرةً يتلاعب بها صبيان بني أميّة.
ولم يسكت الإمام الحسين "ع" بعد إبرام الصلح مع معاوية، بل كان يتحرَّك وفق مسؤوليّته تجاه شريعةِ ربّه وأمّةِ جدِّه "ص، بصفته وريث النبوّة بعد أخيه الإمام الحسن "ع"، مراعيًا ظروف الأمّة، ومراقبًا لمدى تدهورها، وساعيًا للمحافظة على ثمرة جهود رسول الله "ص". فحاول اختراق حصار التضليل الأمويّ، عبر أنشطة مختلفة، من الوعظ والإرشاد، إلى حلقات التدريس، إلى الخطب في التجمّعات العامّة في موسم الحجّ، بل حتّى في مجلس معاوية نفسه، فعرّف مكانة أهل البيت عليهم السلام وفضلهم، وأنّهم حجج الله على خلقه، أحياءً وأمواتًا.
وقد عمل الإمام، في فترة حكم معاوية، على تحصين الأمّة ضدّ الانهيار التامّ. ويمكن أنْ نلخّص مجمل نشاطه في هذه الفترة، فيما يأتي:
رفض بيعة يزيد
أعلن الإمام الحسين "ع" رفضه القاطع لبيعة يزيد، بعدما قرّر معاوية أنْ يسافرَ إلى المدينة ليتولّى بنفسه إقناع المعارضين، وقد اتّسم موقف الإمام "ع" مع معاوية بالشدّة والصرامة.
التنديد بسياسة معاوية
أعلن الإمام الحسين "ع"، وفي مناسبات مختلفة، اعتراضه على سياسة معاوية، وعلى نقضه لشروط الصلح، واحتجّ على ممارسات وُلاتِه وظلمهم وانحرافاتهم. وأخذ يحذّر المسلمين، علنًا، من سياسة معاوية الهدّامة.
ولمّا استشهد الإمام الحسن "ع"، تحرّكت الشيعة في العراق، وكتبوا إلى الحسين "ع" في خلع معاوية والبيعة له، وأخذَت الوفود تترى على الإمام من جميع الأقطار الإسلاميّة، وهي تعجّ بالشكوى وتستغيث به، نتيجة الظلم والجور الذي حلّ بها، وتطلب منه القيام بإنقاذها من الاضطهاد، فامتنع عليهم، وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهدًا وعقدًا، لا يجوز له نقضه حتّى تمضي المدّة، فإذا مات معاوية، نظر في ذلك.
الاحتكاك بسلطة معاوية
وكان أوّل احتكاك بين الإمام الحسين "ع" وبني أميّة، في اليوم الأوّل من إمامته. فبعد شهادة أخيه الحسن "ع"، أراد الإمام "ع" دفنَه قرب جدِّه "ص"، فاستنفر مروانُ بن الحكم بني أميّة، وكاد يقع القتال بينهم وبين بني هاشم، إذ خرجت أمُّ المؤمنين على بغلةٍ أحضرها لها مروان، ومنعَت الإمام "ع" من دفن أخيه قرب جدِّه. وقد حال الإمام "ع" دون نشوب قتال وسفك دماء، وصيّةً من الإمام الحسن "ع". لقد كانت هذه الحادثة إيذانًا بصورةِ ما سوف يكون عليه الوضع بين الإمام الحسين "ع" والأمويّين.
وكان معاوية ينفق أكثر أموال الدولة على تدعيم ملكه، كما كان يهب الأموال الطائلة لبني أميّة، لتقوية مركزهم السياسيّ والاجتماعيّ، وكان الإمام الحسين "ع" يشجب هذه السياسة، ويرى ضرورة إنقاذ الأموال من معاوية، الذي يفتقد حكمُه لأيِّ أساسٍ شرعيّ، ولا يقوم إلّا على القمع والإرهاب. وقد اجتازَت على المدينة أموالٌ من اليمن إلى خزينة دمشق، فعمد الإمام "ع" إلى مصادرتها وتوزيعها بين المحتاجين، وكتب إلى معاوية: من الحسين بن عليّ، إلى معاوية بن أبي سفيان، أمّا بعد، فإنَّ عِيرًا مرَّت بنا من اليمن، تحمل مالًا وحُلَلًا وعنبرًا وطيبًا إليك، لتودعها خزائن دمشق، وتعلّ بها بعد النهل بني أبيك، وإنّي احتجتُها فأخذتُها، والسلام. وقد أجابه معاوية برسالةٍ يهدّده فيها بمَن يأتي بعده، يعني يزيد.
إعلان المعارضة
حجَّ الإمام الحسين "ع" وعبد الله بن عبّاس وعبد الله بن جعفر معه، قبل موت معاوية بسنة. فجمع الحسين "ع" بني هاشم، رجالهم، ونساءهم، ومواليهم، وشيعتهم من حجَّ منهم، ومن الأنصار ممّن يعرفه الحسين "ع" وأهل بيته. فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمئة رجل، وهم في سرادقه، عامّتُهم من التابعين، ونحو من مئتَي رجل من أصحاب النبيّ "ص" وغيرهم. فقام فيهم الحسين "ع" خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ هَذَا الطَّاغِيَةَ قَدْ فَعَلَ بِنَا وَبِشِيعَتِنَا مَا قَدْ رَأَيْتُمْ وَعَلِمْتُمْ وَشَهِدْتُمْ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَإِنْ صَدَقْتُ فَصَدِّقُونِي، وَإِنْ كَذَبْتُ فَكَذِّبُونِي. أَسْأَلُكُمْ بِحَقِّ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ، وَحَقِّ قَرَابَتِي مِنْ نَبِيِّكُمْ، لَمَّا سيرتم (سَتَرْتُمْ) مَقَامِي هَذَا، وَوَصَفْتُمْ مَقَالَتِي، وَدَعَوْتُمْ أَجْمَعِينَ فِي أَنْصَارِكُمْ مِنْ قَبَائِلِكُمْ، مَنْ أَمِنْتُمْ مِنَ النَّاسِ وَوَثِقْتُمْ بِهِ، فَادْعُوهُمْ إِلَى مَا تَعْلَمُونَ مِنْ حَقِّنَا، فَإِنِّي أَتَخَوَّفُ أَنْ يَدْرُسَ هَذَا الْأَمْرُ، وَيَذْهَبَ الْحَقُّ وَيُغْلَبَ، وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْكافِرُون".
أعلى صرخة للإسلام
إنّ مآتم الحزن على أهل البيت "عليهم السلام" بما فيها من الجلوس بعنوان الحزن على مصائب أهل البيت "ع"، والإنفاق عنهم في وجوه البرّ، وتلاوة رثائهم ومناقبهم، والبكاء رحمة لهم، سيرةٌ قطعيّة قد استمرّت عليها أئمّة الهدى من أهل البيت "ع"، وأمروا بها أولياءهم على مرّ الليالي والأيّام فورثناها منهم، وثابرنا عليها عملاً بما هو المأثور عنهم، فكيف - والحال هذه – ينكرها البعض، ويقولون فيها ما يقولون؟
والله يعلم أنّها ليست كما يظنّون.
إنّها جامعة إسلاميّة ورابطة إماميّة باسم النبيّ وآله "ص"، ينبعث عنها الاعتصام بحبل الله - عزّ وجلّ - والتمسّك بثقلي رسول الله "ص، وفيها من اجتماع القلوب على أداء أجر الرسالة بمودّة القربى، وترادف العزائم على إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام ما ليس في
غيرها.
إنّ هذه المآتم دعوة إلى الدّين بأحسن صورة وألطف أسلوب، بل هي أعلى صرخة للإسلام توقظ الغافل من سباته، وتنبّه الجاهل من سكراته، بما تُشرِبه في قلوب المجتمعين، وتَنفُثه في آذان المستمعين، وتبثّه في العالم، وتصوّره قالباً لجميع بني آدم، من أعلام الرسالة، وآيات الإسلام، وأدلّة الدِّين، وحجج المسلمين، والسيرة النبويّة، والخصائص العلويّة، ومصائب أهل البيت في سبيل الله، وصبرهم على الأذى في إعلاء كلمة الله.
(من أسرار المآتم) ما قد أثبته العيان، وشهد به الحسّ والوجدان من بثّ المعارف بسبب هذه المآتم ونشر أطراف من العلوم ببركتها، إذ هي - بشرط كونها على أصولها - أرقى مدرسة للعوامّ، يستضيئون فيها بأنوار الحكم من جوامع الكلم.
إنّ المصلحة الّتي استشهد الحسين - بأبي وأمّي - في سبيلها، وسفك دمه الزكيّ تلقاءها، تستوجب استمرار هذه المآتم، وتقتضي دوامها إلى يوم القيامة.