بغداد كما تمنيتها

الصفحة الاخيرة 2024/07/08
...

عبد الهادي مهودر

لا نعرف كم كاتباً وباحثاً استخدم عنوان (بغداد بين الواقع والطموح) فقد عَمَّرَ هذا العنوان طويلاً في الصحافة العراقيَّة إلى حد الملل كعنوان جاهز قابل للتحوير بمجرد تبديل المفردة الأولى، وفي العناوين الصحفيَّة متعة ما بعدها متعة حتى أنّي تمنيت مرّة استحداث وظيفة (عنوانچي) في الصحافة العراقيَّة مسؤوليته الوحيدة كتابة كل عناوين الجريدة الرئيسيَّة والفرعيَّة، ومابين (العنوانچية) و(الدنگچية) أمنيات مشتركة، والأخيرة من أقدم محلات بغداد ومسقط رأس المؤرخ أمين المميز صاحب كتاب (بغداد كما عرفتها) وحسب وصفه لهذه المحلة فهي قطب الكون وعگد الصخر الذي يخترقها من الشمال وينتهي بالجسر القديم بمثابة الشريان الأبهر للقلب، والمقصود بها المنطقة الممتدة من جسر الشهداء بجانب الرصافة وبداية شارع المتحف البغدادي مروراً بشارع المتنبي الذي كان يسمّى (الأكمك خانة) ومعناها المخابز العسكرية باللغة التركية حيث كانت مركزاً للمخابز حول السراي الحكومي العثماني، أي أن الناس كانت تخبز والحكومة تأكل، وكم تمنيت لو بقي مخبز واحد يعمل وسط شارع المتنبي للذكرى وللربط بين خبازي الأمس وخبازي اليوم الذين يؤلفون الكتب ويخبزونها بسرعة البرق وفق المثل الشائع (حار ومگسّب ورخيص)!.
وحين تتجول في درابين بغداد القديمة تشعر بألفة وحميميَّة المكان وبفارق بدرجات الحرارة حيث يؤدي ضيق الدرابين الى توفر الظلال الوافرة للبيوت التي تكاد تتعانق، فضلا عن استخدام مادة الجص للبناء والخشب للأبواب والشبابيك والسقوف والشناشيل لواجهات المنازل، ومع الشكوى من ارتفاع درجات الحرارة في صيفنا اللاهب نشعر كم جنينا على بغداد عبر تاريخها الطويل بدءاً بالمسّاحين الهنود الذين استعان بهم العثمانيون ومسحوها من الخارطة وانتهاءً بالعراقيين الذين لم يجبرهم أحد على تخطيط المناطق السكنيَّة بشوارع عريضة تسكنها الشمس من شروقها الى غروبها، ولماذا جعلنا البيوت عبارة عن صناديق من الكونكريت، وتخلينا عن بناء المدن بالتصاميم القديمة نفسها الصديقة للبيئة بأزقتها الضيقة الباردة وبيوتها التي ما زالت شاخصة وتلفت الأنظار بجمالها وروعتها كالبيوت التراثيَّة الموجودة في منطقتي السراي وشارع حيفا؟، وماذا لو ننشئ اليوم في حملة تطوير بغداد مدينة جديدة بتصاميم الدرابين الضيقة والبيوت البغدادية القديمة، مع أمنية بتسمية (دنگ) شارع المتنبي بأسماء الشخصيات التاريخيّة العراقيّة اللامعة في مجالات العلوم والآداب والفنون والعمارة، وهو مقترح كتبته وطرحته أكثر من مرة وآخرها في مبنى المركز الثقافي العراقي بحضور محافظ بغداد وجمعٍ من الأدباء والصحفيين ولاقى استحساناً، مع فارق أن الدنگ المقصودة غير (الدنگچية) التي يقال أنها كانت مهنة تنسب لآلة طحن التمن، وهو مقترح غير مكلف ماليّاً وليس بحاجة الى (دنگة) قوية لتنفيذه.