السائرون صوب الحسين {عليه السلام}

ريبورتاج 2024/07/11
...

 عبد الرضا الجاسم

كل عام، نعيد كتابة القصة، ليس بحبر وأقلام، بل بخطى ترسم على صدر الأرض قلوبا دامية، وأحلاما تنبض مع كل نفس أتعبه طول الطريق وثقل الأيام، هكذا هي مسيرة الأربعين؛ ليست جموعا من الناس تسير صوب كربلاء، بل قصة بطولة، وحلم إنسان بعدل ذبحته سيوف المطامع، وطمست معالمه أصابع التزوير والتحريف، حين خطت ذاكرة أخرى للإنسان، استلتها من سواد القلوب ووحشية السلطة ولهاث أذنابها وراء السحت الملطخ بدماء الأبرياء.

جسد التاريخ مزدحم بمحطات يخجل منها الإنسان، تستنسخ فيها القصة نفسها؛ سلطان يرى أنه محور الكون، وكل ما سواه خُلق من أجله، وأذناب أقروا بأنه ربهم الأعلى، وأرواح بريئة تسحق تحت سنابك تجبر السلطان وأطماع أذنابه، وهناك دوما أقلام وألسنة تحت الطلب، قِبلتُها جيوب السلطة، ومعيارها قول السلطان، أياً كان وكيفما كان؛ (( ما أُريكم إِلا ما أَرى وما أَهديكم إِلَّا سبيل الرشاد)).

هناك دوما ساكتون عن حقهم، وحين يصمت أهل الحق، لا يكتفي الباطل برفع صوته، بل يقترح على التاريخ سطورا أخرى لا وجود لها إلا في كواليس التزييف، فيعيد تقديم نفسه بصورة الحق، ليصبح الحق باطلا والباطل حقا، يكبر على ذلك الصغير، وتتوارثه الأجيال حتى يكون مسلّمة يسير على نهجها من (( ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً))، وليس هناك أسوأ من أن يصير الباطل ثقافة تترسخ جيلا بعد جيل، حتى يوصف من يعارضها في نظر الجمع السائد بأنه باطل، تماما كما قال قوم لوط: (( أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ))، فأي مفارقة كارثية حين يصبح التطهر تهمة؟ مثل مجتمع أعمى يتهم من يبصر بأنه منحرف عن الفطرة السوية، وهذا هو أخطر ما فعله الظالمون وأذنابهم، وساعدهم عليه سكوت أهل الحق عن حقهم.

في الطريق إلى كربلاء، تتحدث الخطى كما تصدح الحناجر، وتنبض القلوب قصصاً عن بطولة شمخت عزاً إلى عنان السماء، ودماء سفحت ظمأى على جانب الفرات، وبعد أن وضعت الملحمة أوزارها، حُملت أقمار على رؤوس الرماح، ولكن أي مصيبة، أن تحمل الأقمار لتوضع بين يدي عناوين الظلام؟.

نحث الخطى صوب شمس أخرى، شاء رب السماء أن يكرم أهل الأرض بها، فاستقرت في حضن كربلاء، مناراً لكل طالب حق، وباحث عن الانعتاق من قيود الذل والهوان، ولكل نفس أثخنتها الأيام بالهموم، فجاءت تستظل في فيء الصبر المهيب لشمس كربلاء.

في ذكرى الأربعين، تيمم القلوب نبضها صوب كربلاء، ولكن ماذا نريد في هذا المسير الطويل؟ وهذا السيل العرم من الأجساد المتعبة ماذا يريد؟ أي معنى تكتبه هذه الملايين من الخطى التي تغذ السير بلا كلل؟.. لابد من هدف، فالحسين عليه السلام حين شد الرحال صوب العراق، جاء لهدف عظيم، بدأه جده رسول الله صلى الله عليه وآله، ورأى أبو عبد الله عليه السلام أن هذا الهدف يستحق أن يسفك دمه ودماء أهل بيته من أجله، فأي هدف يستحق دم الحسين؟.

رأى الإمام الحسين دين جده يُختطف، من نفس الأيدي التي حملت السيف بوجه جده المصطفى، والأمة بين نائم استمرأ السكوت، وسجين بين قضبان خوفه من بطش الظالمين، فكان لابد من هزة تعيد نبض الحياة لهذه الأمة، وتحرك وجدانها وتقدح فيها شرارة الثورة، إذن، حين نسير في أربعين الحسين عليه السلام، فنحن ذاهبون لنعطي عهداً، أن دم سيد الشهداء لم يذهب هدراً، ولكن كيف؟.

أعطى الإمام الحسين دمه من أجل إقامة معالم هذا الدين، إذن، فالتزامنا بديننا أحد سطور هذا العهد الذي قطعنا هذه المسافات لنقدمه بين يدي أبي عبد الله، فأي عهد سيقوله من كان لا يصلي، وأي صدق تحمله كلمات من ذهب إلى أربعين الحسين وهو مثقل بمظالم العباد؟ كيف يقف في باب أبي عبد الله عليه السلام المرتشي الذي ملأ بطنه بما استنزفه من جيوب الناس ظلما وعدواناً؟ ولا يتوهم أن التسميات سوف تسعفه، فالرشوة تبقى رشوة حتى لو سماها هدية، أو وضع لها عنواناً عجيباً هو قضاء حوائج الناس، فالحق لا يؤخذ بالباطل، والله سبحانه لا يُسرق، لأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

كيف يقف بين يدي أبي عبد الله ويقدم عهده، قاطع لرحمه، أو ظالم لعباد الله، أو من يغش الناس ويخدعهم من أجل السحت الحرام، أو فاسد ينهب الملايين من أفواه الفقراء والأيتام والأرامل، وهم بالملايين، وكلهم خصومه أمام الله الذي استشهد الحسين في سبيل دينه، أو خائن لا تستطيع أن تأتمنه على حبة من خردل، أو كذاب يجري الكذب على لسانه كالماء، أو معتد على أعراض الناس، يخدع هذه ويكذب على تلك، ويلاحق أخرى، وهو غافل عن أن الله يسمع ويرى؟.

ماذا سيقول أمام الحسين كل فاسد؟

هل قطع هذه المسافة ليكذب على أبي عبد الله؟.. يقول (معكم.. معكم) وهو في صف أعدائهم وليس معهم، فالحسين خرج لطلب الإصلاح، والفاسد يقف ضداً لكل ما ضحى من أجله سيد الشهداء.

الإنسان على نفسه بصيرة، ومع كل خطوة في الأربعين صوب قبلة الأحرار، يجب أن نعيد قراءة سنوات العمر؛ هل كنا مع الحسين أو ضده، هل كنا مع الحق ضد الباطل؛ مع الاستقامة، مع الصدق، مع نزاهة اليد والقلب، مع الخير ضد الشر؟... وتطول القائمة، ولعل عنوانها الأكبر: هل كنا مع الله أو مع أنفسنا الأمارة بالسوء؟ والحق قديم، لا يكاد يخفى إلا على من أغمض ضميره قبل عينيه.