فشل القوات البحريَّة الأميركيَّة والحليفة في صدِّ الحوثيين

قضايا عربية ودولية 2024/07/15
...

• كييث جونسون وجاك ديتش 

• ترجمة: أنيس الصفار 


بعد مرور أكثر من ستة أشهر على بدء جماعة الحوثيين في اليمن تعطيل حركة الملاحة في البحر الأحمر بشكل جدي اضطرت حركة الشحن العالمي للتسليم بواقع جديد لا تزداد فيه إلا سوءاً التأخيرات وعدم الانتظام وارتفاع التكاليف بمرور الوقت. يحدث هذا رغم الجهود التي تبذلها القوات البحرية الأميركية ونظيراتها البريطانية والأوروبية التي تمركزت في تلك المواقع طيلة هذه الفترة محاولة دون جدوى تحييد التهديد الحوثي واستعادة أمن الشحن التجاري.

حقيقة أنَّ أرفع القوى البحرية في العالم قد ظهرت بمظهر من يكدّ ويعاني للتغلب على جماعة من المتمردين أثارت أسئلة موجعة بشأن جدوى القوات البحرية ومستويات كفاءة البحريات الغربية التي ينتظر منها مستقبلاً تحمل عبء أي مجابهة مع ند حقيقي، كالصين مثلاً. البحرية الأميركية أقرت فعلاً بأنها اليوم تخوض أشد المعارك شراسة منذ الحرب العالمية الثانية.

يقول "سباستيان برونز"، الخبير البحري من مركز الستراتيجية والأمن البحري: "لقد أثبت الحوثيون حقاً أنهم قوة لا ينبغي الاستهانة بها. هم لاعب لا يمثل دولة، ولكنه قادر على النزول إلى الميدان بترسانة كبيرة من السلاح والتسبب بصداع حقيقي للتحالف الغربي. قد يكون الوضع الحالي هو أقصى ما ستصل إليه الأمور، ولكن عندما تواجه القوى البحرية مشكلة في العمل حتى عند هذا المستوى فإنَّ الأمر يغدو مثيراً للقلق حقاً".


مكمن قاتل

من مكمنها القاتل المطلّ على ممر السفن عبر مضيق باب المندب، الذي يعد بوابة النفوذ إلى قناة السويس، تنشط جماعة الحوثيين في مهاجمة السفن المدنية وتلك التابعة لسلاح البحرية والسفن التجارية منذ أواخر السنة الماضية كجزء من حملتها، حسب قول الحركة، الهادفة للضغط على إسرائيل بسبب حربها مع حماس، وسرعان ما فرّت السفن التجارية، التي تشمل سفن الحاويات الضخمة والحاملات العملاقة وناقلات النفط والغاز، من البحر الأحمر مفضلة سلوك الطريق الأطول والأسلم بالدوران حول جنوب القارة الأفريقية. 

إلا أنَّ ذلك الوضع المضطرب لم يكن متوقعاً له أن يستمر، خصوصاً بعد وصول القوات البحرية الغربية إلى مسرح الأحداث لإعادة الأمن. بل أنَّ أقساط التأمين على شركات الشحن البحري انخفضت قليلاً بمجرد الإعلان عن النشر المشترك للسفن الأميركية والبريطانية، واستقرت رسوم الشحن خلال الربيع رغم استمرار الحملة.

مع هذا، ورغم مرور ثمانية أشهر، تفاقم اضطراب حركة الشحن فجأة نحو الأسوأ بكثير. ففي أواخر شهر حزيران الماضي أغرقت هجمات الحوثيين سفينة هي الثانية منذ بدء هجماتهم بينما أصابت أخرى بأضرار. قائمة الاستهدافات والهجمات الناجحة باتت حدثاً يومياً يتردد صداه، والرسائل الصادرة عن القيادة الوسطى الأميركية أصبحت قرع طبول شبه يومي من تقارير تتحدث عن تصدي السفن الأميركية للطائرات المسيرة والصواريخ وإغراق الزوارق المسيرة. الحوثيون، اللذين استخدموا الصواريخ المضادة للسفن بفعالية كبيرة، يعمدون الآن بشكل متزايد إلى استخدام هذه الزوارق المسيرة المتحركة فوق سطح الماء، ومن بينها زورق يعرف باسم "السمكة المنتفخة". 


تداعيات وتأثيرات

لم تكن التأثيرات والتداعيات كلها واضحة للعيان تماماً كما هي في حالة الانفجارات التي ألحقت الضرر بناقلة البضائع "ترانسوورلد نافيغيتر" في أواخر الشهر الماضي، لكنها مع ذلك لم تكن أقل إيلاماً. فقد انخفضت حركة المرور عبر قناة السويس، التي تعد مصدراً مهماً للدخل بالنسبة لمصر، إلى النصف تقريباً مع تدني الحمولات إلى أكثر من ذلك. أما السفن التي تختار الطريق الأطول بالدوران حول القارة فإنها تضيف وقتاً ونفقات ثم ينتهي الأمر بتحمل الجميع مزيداً من النفقات. نتيجة ذلك ارتفعت كلفة حاوية الشحن من نحو 1600 دولار كمعدل إلى ما يزيد على 5000 دولار وفقاً لمزود البيانات العالمي "ستاندرد أند بورز غلوبال كومودتي إنسايتس". معدلات الأسعار اليوم فاقت حتى ما كانت عليه في ذروة الذعر أيام أزمة البحر الأحمر في وقت سابق من هذه السنة. واليوم تجني شركات الشحن الكبرى، التي كانت تطلق التحذيرات قبل أشهر قليلة من أن تؤدي تخمة السفن إلى إعاقة الواردات، أرباحاً فاقت كل التصورات.  عندما تحول سفينة الحاويات مسارها للدوران حول أفريقيا ترتفع بذلك تكاليف الشحن المباشرة نظراً لإضافة 10 أيام إلى زمن الرحلة مع مزيد من الأميال والوقود، كما يقول "كرس روجرز" رئيس قسم أبحاث سلسلة التجهيز في شركة "ستاندرد أند بورز غلوبال ماركت إنتلجنس". يضيف روجرز: "لكن المشكلة الكبرى تتمثل في أنَّ ذلك يقلل بدرجة فعالة القدرة المتاحة على النظام بأكمله بنسبة تقارب 6 بالمئة تقريباً". 


زراعة الخوف

لكن كيف تمكنت عصبة من رجال البحر في بلد صغير جائع مثل اليمن أن تزرع الخوف في الاقتصاد العالمي وتدوّخ أكبر القوات البحرية في العالم؟ بل أنَّ مكافحة العصابات التي تهدد السفن التجارية كانت هي السبب الحقيقي الذي تأسست لأجله البحرية الأميركية أصلاً.

كانت القوات البحرية.. الأميركية والبريطانية والمجموعة المتناوبة من السفن الأوروبية.. تحاول منذ بداية الحملة الحوثية تقريباً أن تعيد حركة الشحن إلى وضعها الطبيعي دون أن تحقق نجاحاً يذكر، وهو ما تشهد عليه حقيقة أنَّ أسعار التأمين على تغطية الحرب للسفن التي تغامر بسلوك الممر الخطير لا تزال على ما يبدو عند أعلى حد بلغته وهو يقارب 1000 بالمئة قياساً إلى مستويات ما قبل الحرب. بل أنَّ إحدى شركات التأمين أطلقت نوعاً خاصاً من التأمين ضد الحرب هو الأول من نوعه خلال الربيع الماضي للناقلين البحريين الذين لم يتمكنوا من الحصول على التغطية بأي شكل آخر، وتلك دلالة مؤكدة على أنَّ التواجد البحري الغربي لم يأت بالهدوء إلى

الأسواق.

يتمثل جانب من المشكلة في أنَّ المجموعتين البحريتين- أي الأميركية والبريطانية ضمن عملية "أمناء الرخاء" من ناحية، وتلك التابعة للاتحاد الأوروبي ضمن عملية "أسبيدس" من ناحية ثانية- تتوليان مهمتين مختلفتين. فالقوة الأنغلو- أميركية تهدف إلى اعتراض التهديدات وضرب مصادرها على البر، في حين يتقيد الأوروبيون أكثر بمهمة ملازمة السفن التجارية بصورة مباشرة وتوفير الحماية لها دون الانجرار إلى قتال الحوثيين. لكنَّ أياً من هاتين المهمتين لم تحقق نجاحاً. 

فالجهود الأميركية البريطانية المشتركة "لإضعاف" قدرة الحوثيين على استهداف حركة الشحن انتهى بها المطاف لأن أصبحت لعبة باهظة التكاليف أقرب ما تكون إلى لعبة "اصطياد الخلد". لأنَّ الحوثيين أثبتوا أنهم أقدر على الحركة والمناورة وأفضل تجهيزاً من قبل إيران مما كان يتوقع سابقاً، الأمر الذي جعل النجاحات القليلة التي حققتها البحرية الأميركية بالصدفة، مثل تدمير موقع رادار للحوثيين، مجرد قطرة في دلو. يقول الخبير البحري برونز: "يتمتع الحوثيون بمستوى من العمق مذهل حقاً في مستودعات ذخائرهم.. ما بين القذائف والصواريخ والقذائف الصاروخية الباليستية المضادة للسفن. ذلك شيء مثير للإعجاب حقاً." فما دامت الحرب بين إسرائيل وحماس مستمرة سيبقى لدى الحوثيين سبب وفرصة لإثارة المتاعب، على حد تعبير برونز.


مخازن الذخيرة

كلّ هذا النشر للقوات وعمليات الاعتراض الدائمة قضمت نصيباً من مستودعات الذخائر الخاصة بالبحرية الأميركية نفسها. فقد صرّح مساعدون في الكونغرس أنَّ الولايات المتحدة لا تكاد تنتج ما يكفي من صواريخ الدفاع الجوي القياسية التي تستخدمها سفن المرافقة الأميركية في البحر الأحمر لإسقاط الطائرات المسيرة والصواريخ الحوثية. يقول أحد هؤلاء المساعدين: "طالما بقيت معدلات الاستهلاك مرتفعة بهذه الحدة التي هي عليها الآن فإننا سنبقى في وضع متأرجح حرج."

ثم أنَّ الأمر باهظ التكاليف أيضاً. لذا تتطلع البحرية، وكذلك المجهزون مثل "رايثون"، إلى بدائل أقدم عهداً وأرخص ثمناً لاستخدامها بمواجهة أسلحة الحوثيين منخفضة التكنولوجياً والاحتفاظ بالصواريخ المتطورة لاستعمالها في أي حرب مستقبلية محتملة مع الصين.

يقول "سيث جونز"، نائب رئيس أقدم ومدير برنامج الأمن الدولي في مركز الدراسات الستراتيجية والدولية: "عند تعاملك مع صواريخ كروز أو القذائف الباليستية أو الصواريخ أسرع من الصوت فإنك ستحتاج إلى قدرات متطورة ومعقدة، أما في حالة الطائرات المسيرة فلن تحتاج إلى هدر ملايين الدولارات للتعامل معها". دعنا نحكم من خلال النتائج.. فإذا ما بقيت السفن تحول مسارها تفادياً للخطر، وإذا ما بقيت أقساط التأمين مرتفعة.. فإنَّ النهج الذي تتبعه الولايات المتحدة لم يحقق الغاية التي أعد لها. يقول "أليسيو باتالانو"، وهو خبير بحري من كنغز كولج في لندن: "بعد أشهر من ممارستنا هذا النهج، وما لم يغير الحوثيون سلوكهم وبقي خزين أسلحتهم عامراً وإذا ما بقوا دائبي الحركة والمناورة وتلقي الدعم من إيران، فسيكون الوقت قد حان لطرح السؤال.. هل علينا الاستمرار حقاً في ما نفعله؟".

رحيل آيزنهاور

هذه المهمة لم يسعفها أيضاً رحيل حاملة الأسطول الأميركية الوحيدة "يو أس أس آيزنهاور" مؤخراً حيث تقرر عودتها إلى الوطن بعد تمديد فترة انتشارها مرتين، وسوف تحل محلها في مرحلة مقبلة الحاملة "ثيودور روزفلت"، ولكن ذلك لن يتم إلا على حساب سحب حاملة الطائرات المذكورة وخروجها من بحر الصين الجنوبي حيث كانت مهمتها استعراض قوة الولايات المتحدة في خضم مواجهة هي الأكثر جدية وخطورة بين الصين والفلبين حليفة الولايات المتحدة.

يضيف باتالانو: "نحن نصر على الاستمرار في مهمة لا نستطيع تعريف حدودها .. فكيف يمكن تبرير سحب حاملة طائرات من منطقة تشهد توترات بحرية حقيقية؟".

بيد أنَّ هذا النوع من المناورة يفصح عن المشكلة الثانية، وهي مشكلة تشعر بها على نحو خاص القوات البحرية الأوروبية التي جعلت مهمتها المعلنة هي الدفاع عن حرية الملاحة في البحر الأحمر والمناطق التي حوله. تتمثل المشكلة في أنهم لم يمتلكوا ما يكفي من السفن للقيام حتى بالمهمة المحدودة التي أوكلت اليهم، فالفرقاطة الألمانية "الراية الذهبية" لم تقضِ سوى بضعة أشهر في البحر الأحمر قبل أن تخرج منهكة بعد محاولة فاشلة قامت بها لإسقاط طائرة مسيرة خلال فترة تواجدها هناك. سفن أوروبية أخرى كان أداؤها أفضل، لكن الأمر ببساطة هو أنها لم تكن هناك منها أعداد كافية للمحافظة على ذلك المستوى من التغطية الثابتة من المحيط الهندي إلى قناة السويس الذي يجعل من مرافقة السفن عملية ناجعة.

الفشل الواضح الذي باءت به المهمة الأميركية والأوروبية في تأمين البحر الأحمر لا يدعو بالضرورة للتشكك بفعالية القوة البحرية في أداء المهام المعقدة التي تقلق صناع السياسة على نطاق العالم اليوم مثل خوض المعارك مع القوى العظمى. يقول باتالانو: "هذا ليس إخفاقاً للأمن البحري أو قوات البحر أو سلاح البحرية. فالحاملة "آيزنهاور" والمجموعة الضاربة المرافقة لها قد أدت واجباتها ببراعة مثيرة للإعجاب. مكمن المشكلة هو انقطاع الصلة بين السياسة وكيفية استخدامك لتلك القوة البحرية. إن يكن الهدف هو محاولة تأمين حرية الملاحة فنحن لم نبلغ هذا الهدف."

بيد أنَّ المسألة برمتها تؤكد إلى أي حد أخذت أوروبا والعالم مأخذ التسليم أنَّ أمن البحار الذي جعل العولمة أمراً ممكناً لم يأت من عدم. لقد اكتشف الأوروبيون أنَّ استعادة هذا النوع من الأمن في البحر يتطلب استثماراً ثابتاً ودائماً في القدرات البحرية، وهو ببساطة ما لم يتحقق على مدى العقود الأخيرة كما أنه لن يمكن تحقيقه على النحو المرجو في وقت قريب. يقول برونز إنَّ ضمان الأمن إنما يأتي على حساب تكلفة واضحة في ميزانيات الدفاع الأعلى. والقول ذاته ينطبق على البديل، إذا ما أصبحت أوضاع مثل تلك التي أشاعت الاضطراب في البحر الأحمر طيلة أشهر عدة، هي الوضع الطبيعي الجديد. يختتم برونز متسائلاً: "علينا أن نسأل أنفسنا.. أي مستوى من انعدام الأمن البحري هو ذلك الذي يمكننا تحمله والتعايش معه، ومن الذي سيتحمل التكاليف؟".


• مجلة "فورن بولسي"