د. علاء هادي الحطاب
اعتاد العراقيون على الاختلافِ في مجملِ القضايا السياسيَّة والاجتماعيَّة والدينيَّة وحتى الثقافيَّة، والاختلاف بحدِّ ذاته ليس أمراً ممقوتاً، بل يراه بعضُ الباحثين محموداً؛ كونه ينتجُ أفكاراً مختلفة ومتنوعة ومتعددة، لذا جاء في المشهور أنَّ اختلاف الرأي لا يُفْسِد للود قضيَّة، ولولا اختلاف الأذواق لبارت السلع، وغيرها من الشواهد على وجود إيجابيات في الاختلافات مع وجود السلبيات بطبيعة الحال.
وفي كل عامٍ نختلف كعراقيين بين مؤيدين ورافضين لأحداث 14 تموز 1958 وبين من يسمي ما حدث "ثورة" وآخر يسميها "انقلاباً"، ويبدأ نقاشنا على منصات التواصل الاجتماعي بإطلاق الأحكام العامَّة على ما جرى، قبله، بعده، أسبابه، نتائجه، لكنْ ليس من منطلق الحكم الأكاديمي الخاضع لمعايير ومناهج بحث علميَّة، بل إنَّ أحكامنا نطلقها من منطلق ودافع (حب واحچي واكره واحچي) لذا تجد أنَّ أنصار العهد الملكي يدافعون عنه باستبسالٍ واستقتالٍ ويصبون جامَ غضبهم على قاسم ورفاقه وأحزاب جبهة الاتحاد ويصورون العهد الملكي بذلك العهد الزاهر المزدهر الذي لا فقر فيه ولا ظلم، ولولا انهياره لكنَّا اليوم في مصاف دول العالم المتقدم، من دون أنْ يقدموا دليلاً على إمكانيَّة حدوث تلك الأمنيات، ويلعنون عهد قاسم الذي سلط العسكرَ على مقدرات الدولة وكأن من كان يحكمنا قبل ذلك ليس عسكرياً، والعكس صحيحٌ بالنسبة للرافضين لهذا العهد، إذ لم يروا منه سوى الفقر والإقطاع والمعاهدات المذلة، وسيطرة الاحتلال على مقدرات البلاد، وقمع الرأي وإلغاء نتائج الانتخابات، إذ لم تأت وفق مزاج الحاكم وغيرها من السلبيات، مع أنَّ المدافعين والمنتقدين للعهد الملكي لم يعيشوا ظروفه وأوضاعه داخلياً وخارجياً، وكذلك الحال بأنصار العهد القاسمي - الجمهوريَّة الأولى - الذين ينتقدون ما جرى قبل عهدهم وما بعده ويضعون مقارنات بوضعنا الحالي لذا تجد المدافعين يفتخرون بما أنجز، والرافضين يشخصون ما حصل.
وهذا أمرٌ - الى حدٍ ما - أجده طبيعياً، لكنْ غير المنطقي أنْ تنسحبَ الشخصيات الأكاديميَّة الى صراعٍ "فيسبوكي" و"تويتري" بين مؤيدٍ ورافضٍ، مع إطلاق أحكامٍ عامَّة من دون النظر الى ظروف وأوضاع كل عهد داخلياً وخارجياً، لا سيما أنَّ العراق منذ القدم كان محطّ أطماع دول الجوار والمنطقة والعالم، لأسبابٍ جغرافيَّة وجيوسياسيَّة كثيرة، لذا أوجدت هذه الأطماع مساحات تدخلٍ واسعة بالشأن العراقي، وصورة الاحتلالات الفارسيَّة والعثمانيَّة والانكليزيَّة والأميركيَّة خير دليلٍ على ذلك التدخل والتلاعب بمجريات الأحداث داخلياً. لذا لا بُدَّ من وضع المواقف في سياقاتها التأريخيَّة في حينها، ومن ثمَّ دراسة الظروف المحيطة بها داخلياً وخارجياً، كذلك ظروف المنطقة والعالم، حتى نصل الى حكمٍ "منطقي" الى حدٍ ما وليس بالضرورة صحيحاً، فسرديات الأحداث التأريخيَّة لا تقبل الأحكام المطلقة، وتبقى كلُّها نسبيَّة بين شخصٍ وآخر وفئة وأخرى.
وحدثٌ كبيرٌ مثل الذي جرى في 14 تموز 1958 لا بُدَّ من دراسته، ودراسة ما قبله وما بعده والظروف المحيطة بهما قبل أنْ نطلقَ أحكامنا العامَّة والمطلعة بصواب ما جرى وما كان وما حصل وما نتج، بعيداً عن الأحكام العاطفيَّة المطلقة.