زاهد الساعدي.. تحولات اللون بعمق الأمكنة

منصة 2024/07/21
...

 نصير الشيخ


هناك أمكنة تتداعى، وترحل في زاوية مهملة، لتخرج عن كونها آثرا جمالياً لتتحول إلى ركام وإندثار. أمكنة واقعة في زاوية مهملة عن مديات رؤية العين. 

والفنان زاهد الساعدي أخذ على عاتقه أرشفة هذه الأمكنة جماليا وتصويرياً. لأن تلك الأمكنة "البيوتات، الأزقة القديمة، الخانات المهجورة" ترتبط بالذاكرة الشعبية، وهي الأهل والساكنون والمغادرون، وهي في يوم ما، كانت تمثل ألفة المجتمع العراقي، وهي محل سكن العائلات ذات الدخل البسيط، وإلى الآن في كثير من المناطق البغدادية. 

إذ يجد الساعدي ألفة وارتباطاً روحياً معها، وخاصة في مناطق بغداد في كرخها ورصافتها. حيث يجدُ متعة في التواصل معها، وقراءة الأثر على الجدران وممرات الأزقة والشبابيك ورائحة التراب وأكوام الركام من هذه الإبنية القديمة، كلها ذات تأثير نفسي عليه، وهي بالتالي انعكاس لحيواتٍ وأزمنة ٍلأناسٍ عاشوا واستوطنوا هنا، وبما يتشكل لديه "بيئة" تحبو نحو ساعات اندثارها، حيث اعتاد الفنان زيارة هذه الأزقة والدرابين البغدادية وتصويرها، وبتكرار هذه الزيارات تجدد لديه زوايا نظر محدثة، تجد لها انعكاسا واضحا على سطح القماشة من لوحته الزيتية .

يجدُ الفنان في في حضوره لهذه الأمكنة: أضع في مخيلتي المكان، وأذهب اليه وأصورهُ في أكثر من لقطة فوتوغرافية، وأعيش أجواءه صباحاً ومساءً، حيث أرى انعكاس الضوء وزوايا النور والظل، وكأنني ساعتها في لحظة بحثٍ مستمر باتجاه ما أسميه "جماليات المكان" كل هذا جزء من مشروع عملي لتنفيذ اللوحة ".

الرؤية الواضحة في العمل الفني هي الأساس في التنفيذ، والتي تجيء نتيجة الدراسة والتجربة وتراكم الخبرات والمعرفة المستخلصة من دروس الحياة والمشاهدة.

يقول الفنان زاهد الساعدي: وفرت دراستي الأكاديمية سنوات التعلم والتلقي من قبل أساتذتنا، وبذلك أمتلكنا طابع التأثر وقدرة تنفيذ اللوحة بصرامتها التقليدية، وبما أنتج لنا قاعدة أساس في مشوارنا في حقل الرسم، لذا أؤكد أن الأعمال الواقعية هي أصعب الأعمال رؤية وتنفيذاً.

تأخذ لوحات زاهد الساعدي مساحتها الأثيرة في الإحاطة بمفردات الواقع، رسماً ومنظوراً جمالياً، وهو بهذا يرث من الرواد قدرة الدرس الأكاديمي وحيازته الفنية، لكنه يمتلك زاوية نظر محدثة في أعادة انتاج اللوحة الواقعية، وهذه صارت له سمة حضور في المعارض التشكيلية "جمعية الفنانين التشكيليين، معارض وزارة الثقافة، جمعية التشكيليين ــ فرع ميسان"، منطلقاً من رؤية الفنان تجاه الواقع وتفاصيله ومحاكاته ليس بصيغة التقليد، وإنما بما يبعث في هذا الواقع من جماليات "زقاق، قرية، بستان، نهر، جبل، أهوار" إنها قراءته المكانية وهي تتشكل جماليا على سطح اللوحة. 

ويستدرك الفنان بقوله: ربما يرى المشاهد أو المتلقي في لوحاتي جزءً من كأبة أو الوان قاتمة، وهذا صحيح الى حد ما، لكن البيئة المكانية هي من تؤكد ذلك.. مناطق وأحياء قديمة أيلة للآندثار، لذا أحاول أن أعيد هذا الأثر بالتصوير تارة بالكاميرا، وتارة أخرىباللوحة الزيتية.

أنا أحس، بل أمسك هذه الجماليات الحقيقية في هذا المزيج المكاني، حيث الأزقة القديمة والناس وحركتهم، وتعابير وجوهههم، وربما مرح الصبية ايضاً.

وحول جدلية التجريد وحضوره في الرسم العراقي، مقارنة بالرسم الواقعي والمكاني يرى الفنان أن لكل رسام مساحته التي يجيد العمل فيها وعليها، وأنه ممكن الترحيل الى "التجريد" وأن بداية اللوحة ساعة التنفيذ هي تجريد، لكن يظل العمل الواقعي ببصمته المكانية عملاً صعباً، معتمداً قراءة المساحات في اللوحة وملء فراغاتها، ومعاينة تفصيلاتها عبر تقمص الزوايا االمهملة في النظر الاعتيادي للمكان، من حيث مصدر النور وانعكاس الضوء والظل، ومراقبة حركة الناس من سكنة تلك الأحياء.. كل هذه التفاصيل هي مجمل اشتغالات العمل الفني وبروحيتهِ الأثيرة لديه.