أحمد عبد الحسين
تنبأ فيتغنشتيان مبكراً للخطر الذي ستؤول إليه النزعة العلموية وهي تحاكم كلّ شيء كما لو كان علماً أو نظرية علمية، وهي نزعة استشرتْ الآن لدى كثيرين بحيث بات لفظ العلم أشبه ما يكون بالعدسة التي يُنظر من خلالها لكلّ الملفوظات “الأدبية والدينية والإنسانية” فتبدو صغيرة ضئيلة بإزاء الرهبة التي يستدعيها اسم العلم بمحموله الجديد الذي صار يعني الحقّ الذي يجب على كلّ نتاج إنساني بلوغه لتكون له حصة من الحقيقة.
تتقزم النتاجات الأدبية والدينية “الدينية تحديداً” حين تحاكم وفقاً لهذه العلموية، بحيث يبدو النصّ الديني كما لو أنه علمٌ لم ينضج بعدُ، أو محاولة في النظرية العلمية أنتجها عقل بدائيّ. وبديهيّ أن الملفوظ الدينيّ لا يستوفي شروط لغة العلم لأنه لم ينجز لهذا الغرض أولاً، ولأنّ شروطه ورهاناته تلعب في ساحة أخرى مختلفة تماماً عن المجال الحيويّ الذي تلعب فيه اللغة العلمية. ذلك ما جعل كثيرين يرون في الدين بعامة محض مصادرات “لا أدلة وافية عليها” وبالتالي فهي بلا معنى.
انطلق فيتغنشتيان في معارضته لهذا النزوع العلمويّ من تبيان أن المعنى ليس سرداً ناجزاً يُحاكَم وفقه كلّ ما يريد أن يحوز معنى له، بل هو نمط أداء تداوليّ تحدده الأدوار التي يلعبها في حياة الناس ومصائرهم. كتب عن “سخف” النظر إلى فكرة اختبار وجود الله مثلاً كما لو كنّا نمتحن نظرية فيزيائية أو كيميائية في مختبر لنرى إن كانت تتوافق مع معيار العلم أم لا. وازدرى الفكرة القائلة إنّ كل ما يمكن التلفظ به يجد كماله في التحوّل إلى نظرية علمية وإلا فقد حقه في الاعتراف به.
“عقلنة” القضايا الدينية أمر بالغ السذاجة وإن اكتسى رداء الحرص ورفع شعار “مواكبة العصر”، لأنه في الأساس نتاج شعور بالتقزّم أمام غول “العلم” الذي لا حقّ لأحد في الوجود إلا بعد نيل موافقة صريحة منه.
في تراثنا القريب محاولات مستميتة لمواءمة الدين بالعلم، ابتدأها الإصلاحيون منذ محمد عبده ومرّ عليها كتبة إنشاء كسيد قطب وتلقفها الإٍسلاميون اليوم، وبعض هذه المحاولات بلغتْ سذاجتها حدّ الإضحاك حين أراد بعضهم أن يعقلن وجود الجنّ فقال إنها “الفايروسات”، كما تجدها في الكتب الكثيرة التي وضعت لإثبات الإعجاز العلميّ في القرآن، وكلّها تصدر عن عقول فقيرة المعرفة بالعلم والقرآن معاً.
حلّ فيتغنشتيان هذه المعضلة بأن ردّ كل ملفوظ إلى ساحته التي يلعب بها، فما هو دينيّ يمتلك تأثيراً مختلفاً على الناس عن التأثير الذي يقوم به العلميّ لأنّ كلاً منهما يشتغل في منطقة لا صلة لها بالأخرى، والأدوات التي يلعب بها النصّ العلمي ليست أدوات الدين أو الأدب. وأية محاولة لمقايسة أحدهما بالآخر ستظهر الدين والأدب ملفوظات غبية تحاول أن تكون علماً ولا تستطيع.
كان فيتغنشتيان يحب هذه الجملة: “الله لا يحتاج إلى رأس وإلا كان رأس القرنابيط يفي بالغرض. الله يحتاج إلى قلب”.