مكانة النصَّ الديني في المصادر المعرفيَّة لعلمِ الكلام الجديد

ثقافة 2024/07/24
...

د. طه ياسين

انتهى رواد علم الكلام الجديد ــ وإن كان هذا العلم لم يقنن في وقتهم ــ إلى الاعتماد على القرآن، وجعله المصدر الوحيد للمعرفة، من دون باقي المصادر المعروفة في الفكر الإسلامي، وتوصلوا إلى منهج جديد في التفسير، هو التفسير الموضوعي لحل قضاياهم بالاعتماد على القرآن، لكن مع ذلك كان هناك خلاف حول هذه المصادر، فبطبيعة الحال أن مدرسة الرواد-مدرسة الأفغاني وعبده- انقسمت إلى قسمين: فالقسم السلفي دافع عن مصادر المعرفة التي هي القرآن والسنة والإجماع والقياس، وإن كان الإجماع معدوماً تقريباً..

 وتجدر الإشارة هنا إلى أن هناك من جعل القرآن هو المصدر الوحيد للمعرفة وشكك بالسنة ولم يجعلها في القسم التشريعي، وهؤلاء من أتباع هذا القسم-السلفي- وسنرى من خلال البحث ما هي الأسباب التي جعلتهم يعتمدون فقط على القرآن، والقسم الثاني وهم الاتجاه الحداثي، اعتمدوا على القرآن لكنهم أخضعوه للتأويل- أنسنوه-على اعتبار أن مدار علم الكلام الجديد هو الإنسان، وصاحب هذا الصراع خلاف حول العقل والنص وأيهما يقدم على الآخر، كما أن القسم الأخير اختار الهرمنيوطيقا على التفسير الموضوعي، على اعتبار أن أحكام القرآن هي تاريخية لا يمكن تعميمها على خارج زمانها ومكانها، وهذا الصراع الداخلي هو ليس بجديد على علم الكلام، فهو موجود عند المتكلمين القدماء كما هو الحال عند المتكلمين الجدد، وطبعاً هذا الصراع لم يتجاوز القرآن عند كلا الفريقين، اللهم إن كان هنالك فرق بين القديم والجديد فهذا الفرق يتمثل بالفرق والمذاهب.  
وأولى هذه الإشكاليات هي إشكالية تعارض العقل والنقل. إن إشكالية تعارض العقل والنقل لم تنبع أصلاً من داخل العقل الإسلامي الذي تشكل بتأثير الخطاب القرآني، ولكنها طرأت نتيجة لتأثر الفكر الإسلامي بالعقل الإغريقي الثاوي في الفلسفات الإغريقية، ذلك أن المدقق في الخطاب القرآني يلحظ استنكار القرآن الشديد للعقلية الآبائية الرافضة للوحي المنزل، استناداً إلى مرجعية تاريخية وأحكام موروثة عبر الأجيال.
فتاريخنا لم يعرف قضية بهذا الاسم إلا بعد عصر الترجمة، بل إن تاريخنا لم يكن يعرف شيئا اسمه نص وشيئا اسمه عقل، متمايزين يعيشان حالة صراع وتناقض وتناف وحرب ومعركة بين الاثنين. كان النص والعقل يسيران معاً جنباً إلى جنب، خاضعين لحاكمية الله المطلقة، النص يرشد العقل ويوجهه، والعقل يتفهم النص ويستوعبه ويحسن تطبيقه وفهمه وربطه بالواقع، من دون أي عملية صراع.
إذن، فالتعارض بين العقل والنقل هو ميراث كنسي أوروبي، ولا يمكن فهمه إلا في هذا الضوء، لأن إفراد النقل بطبيعة خاصة، والعقل بطبيعة أخرى، لا يعني بالضرورة التعارض أو التناقض، فنحن لا نقول إن السمع يعارض النقل، وإنما نرى لكل واحد وظيفة خاصة تتميز عن الأخرى، ويمكن أن يكونا مكملين، ولكن صفحات متوالية ودامية توالت عبر التاريخ الأوروبي وتغلغلت عميقاً في الفكر الأوروبي أبرزت النقل والعقل، كما لو كانا متناقضين، وقد حدث هذا قبل ظهور الإسلام بثلاثة قرون، واستمر حتى مشارف العصر.
لقد حاول كثير من حملة الفكر الإسلامي في الماضي، معالجة هذا الأمر والرد على من اتهموا الإسلام بمثل التهم الموجهة إلى الكنيسة، من التقليل من شأن العقل وغمطه حقه، وإعلاء شأن الخرافة، وذلك حين واجهوا بيئة فكرية جامدة رفضت الاجتهاد وتشبثت بالتقليد، وأنكرت على العقل دوره، وأخذت تعتبر الاجتهاد تهمة وإبداء الرأي أو الاجتهاد اقتحاماً للنار، وهدماً للدين.
ومن القواعد المقررة في الدين الإسلامي أن العقل الصريح لا يخالف النص الشرعي الثابت، والمعقول الصحيح دائر مع أخبار الشريعة وجوداً وعدماً، فلم يخبر الله رسوله(p) بما يناقض صريح العقل، ولم يشرع ما يناقض الميزان والعدل.
في الحقيقة، أن الفكر الإسلامي المعاصر انقسم في مسألة العقل والنقل إلى ثلاثة أقسام: منهم من يقدم النقل على العقل، ومنهم من يقدم العقل على النقل، ومنهم من يجمع بين الاثنين ويقضي بأن العقل والنقل متفقان لا يختلفان، كما أن هناك من تذبذب بين تقديم النقل والعقل، فتارة يقدم النقل وتارة يقدم العقل، وسنحاول أن نوضح آراء هؤلاء في هذه المسألة، وإذا كانوا في الوقت الحالي ثلاث فرق، فهم في زمن الغزالي خمس فرق، حيث يقول: “بين المعقول والمنقول تضاد في أول النظر، وظاهر الفكر، والخائضون فيه تحزبوا إلى مفرط بتجريد النظر إلى المنقول، وإلى مفرط بتجريد النظر إلى المعقول، وإلى متوسط طمع في الجمع والتلفيق، والمتوسطون انقسموا إلى من جعل المعقول أصلاً، والمنقول تابعاً، فلم تشتد عنايتهم بالبحث عنه، وإلى من جعل المنقول أصلاً، والمعقول تابعاً، فلم تشتد عنايتهم بالبحث عنه، وإلى من جعل كل واحد أصلاً، ويسعى في التأليف والتوفيق بينهما، فهم إذن خمس فرق”.
وقد خرج الفخر الرازي من هذا التذبذب بتقديم العقل على النقل، حيث يقول: “إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية، أو السمع والعقل، أو النقل والعقل، أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية، أو نحو ذلك من العبارات، فإما أن يجمع بينهما وهو محال، لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن يردا جميعاً، وإما أن يقدم السمع وهو محال، لأن العقل أصل النقل، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل الشيء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحاً في النقل والعقل جميعاً، فوجب تقديم العقل، ثم النقل إما أن يتأول وإما أن يفوض، أما إذا تعارضا تعارض الضدين امتنع الجمع بينهما ولم يمتنع ارتفاعهما”.
وقد أثيرت مسألة النقل والعقل في العالم العربي في الوقت المعاصر، بعد أن افتتن العالم الغربي بالعقل البشري، وجعله نداً للوحي في هداية الإنسان، وقد صاحب هذا هجوم المستشرقين على التصور الإسلامي وعقيدة القضاء والقدر فيه، وقد أراد أصحاب المدرسة العقلية متمثلة بمحمد عبده، إثبات قيمة العقل تجاه النص، وإحياء فكرة الاجتهاد، وهناك من يرى أن محمد عبده مال إلى الغلو عندما أراد أن يثبت لأصدقائه المستشرقين أن أصول الإسلام لا تتعارض مع المنطق والعقل.
وهذه المدرسة وما كان امتدادا لها، أعطوا المساحة الكافية للعقل، وإن كانوا لا يتجاوزون النص، ويتخذون العقل حكماً ودليلاً في أمور الدين كلها، وقد وجدوا بعض التفاسير كما أسلفنا القول مليئة بالخرافة، وما يناقضه العقل من الأقوال فنقدوه وأبطلوه، ووجدوا في معظمها إيماناً وتسليماً بما لا يدركه العقل فأولوه، ليتفق مع العقل، وهذه فرصة لاستعراض آراء الفكر الإسلامي منذ تشكله وصولاً إلى الوقت الحاضر في هذا الموضوع، ونلاحظ التحولات التي طرأت عليه.
من الوجهة النظرية البحتة، أن التشريع الإسلامي في الأصل تشريع سماوي، يصدر عن الله سبحانه وتعالى، والإرادة الإلهية نقلت إلينا توجيهاتها بوسيلتين: وسيلة مباشرة هي القرآن الكريم، والوسيلة الأخرى غير مباشرة تمثلها السنة النبوية، وهي الأعمال والأقوال المنقولة عن رسول الله(p)؛ فالقرآن والسنة هما المصدران الأساسيان للتشريع، وقد أضاف الفقهاء على هذه المصادر، مصدرين آخرين هما الإجماع والقياس.
غالى المعتزلة قديماً في العقل، فمنحوه سلطة مطلقة، وجعلوه حكماً في كل الموضوعات دينية كانت أو علمية، فالعقل عندهم هو المرجع، وهو الأساس، وهو الرائد، فإذا تحاكموا فإلى العقل، وإذا حاجوا فبحكم العقل،، يقررون ما يرشد إليه، وينبذون ما يخالفه من دليل النقل، أو يؤولونه ليتماشى مع العقل.
أما بالنسبة للأشاعرة فقد تذبذبوا في التقديم والتأخير ومنهم الباقلاني والجويني، كذلك نجد هذا التذبذب عند الغزالي حيث يقول: “واعلم أنا إذا حققنا النظر بان أن أصل الأحكام واحد، وهو قوله تعالى، إذ قول الرسول(p) ليس بحكم ولا ملزم، بل هو مخبر عن الله تعالى أنه حكم بكذا وكذا، فالحكم لله تعالى وحده، والإجماع يدل على السنة، والسنة على حكم الله تعالى، وأما العقل فلا يدل على الأحكام الشرعية، بل يدل على نفي الأحكام عند انتفاء السمع، فتسمية العقل أصلاً من أصول الأدلة تجوز”. ونجده في موضع آخر يقول: “فإن العموم يفيد ظناً، والقياس يفيد ظناً، وقد يكون أحدهما أقوى في نفس المجتهد، فيلزمه اتباع الأقوى”. والمقصود بالعموم هنا هو عموم الكتاب. وكذلك يقول: “كل ما دل العقل فيه على أحد الجانبين فليس للتعارض فيه مجال، إذ الأدلة العقلية يستحيل نسخها وتكاذبها، فإن ورد دليل سمعي على خلاف العقل، فإما أن لا يكون متواتراً، فيعلم أنه غير صحيح، وإما أن يكون متواتراً فيكون مؤولاً، ولا يكون متعارضاً، وأما نص متواتر لا يحتمل الخطأ والتأويل وهو على خلاف دليل العقل، فذلك محال لأن دليل العقل لا يقبل النسخ والبطلان”. وهذا ما يذهب إليه الرازي في” أساس التقديس”.
ولا يشك ابن رشد في موافقة العقل للنقل؛ بل نراه يقطع بأن العقل البرهاني لا يضاد الشرع، حيث يقول:” وإذا كانت هذه الشريعة حقاً، وداعية إلى النظر المودي إلى معرفة الحق، فإنا معشر المسلمين، نعلم على القطع، أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له”.  
إن الفكر الأشعري لم يخالف قاعدة تقديم النص على باقي الأدلة، إلا أن هذا التقديم تذبذب وخصوصاً في مسألة السياسة، فنجده تارة يقدم النص وتارة يقدم الإجماع وتارة يقدم الاختيار. وهذا خلاف ما يشاع عن الفكر الأشعري، أنه قدم النص على العقل، وعليه لم يقم المذهب الأشعري على أصول واضحة في المنهج، وإنما على التذبذب. وهناك من يصرح بأن هذا المذهب لم يبق على حاله، وإنما تطور تطوراً سريعاً، جعله يعود إلى العقل، ويجعل منه الدليل الأول، حتى إنه اعتبره قبل النص. لكن هذه العقلنة لا نجدها عند مصطفى عبد الرازق الذي يذهب إلى أن الأشعري اختار الوسطية وتابعه الأشاعرة في ذلك حتى متأخريهم.
أما بالنسبة للشيعة الإمامية، فقد افترقوا بالنسبة إلى الاجتهاد واستنباط الأحكام إلى فرقتين: أصوليين أو مجتهدين، وإخباريين أو محدثين.
أما الأصوليون، فقد بين صاحب “جامع السعادات” مكانة العقل عندهم، لكنه قبل ذلك أكد على إنه يجب أخذ العقائد من الشرع والعقل، حيث يقول: “وأما أصول العقائد فيجب أخذها عيناً من الشرع والعقل، وهما متلازمان لا يتخلف مقتضى أحدهما عن مقتضى الآخر، إذ العقل هو حجة الله الواجب امتثاله والحاكم العدل الذي تطابق أحكامه الواقع ونفس الأمر، فلا يرد حكمه، ولولاه لما عرف الشرع... فالعقل هو الشرع الباطن والنور الداخل، والشرع هو العقل الظاهر والنور الخارج”. كما أن الشيخ الأنصاري وهو من متأخري الأصولية يصرح بملازمة العقل للنقل فيقول:” إن الحق -كما هو عليه المحققون- ثبوت الملازمة الواقعية بين حكم العقل والشرع، وهذا الحكم هو مفاده قولنا: كل ما حكم به العقل حكم به الشرع”.
وما يتراءى في بعض المواضيع من التخالف بينهما إنما هو لقصور العقل أو لعدم ثبوت ما ينسب إلى الشرع منه، فإن كل عقل ليس تاماً، وكل ما ينسب إلى الشرع ليس ثابتاً منه، فالمناط هو العقل الصحيح وما ثبت قطعاً من الشريعة، وأصح العقول وأقواها وأمتنها وأصفاها، هو عقل صاحب الوحي. وقد أشار صاحب كتاب “الحدائق الناضرة” إلى مدارك الأحكام عند الأصوليين وعدها أربعة: “الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل”. نلاحظ هنا أن الأصوليين من الشيعة يساوون بين النقل والعقل من جهة، ومن جهة أخرى يجعلون العقل رابع الأدلة الشرعية. في حين نجد أن الشيخ المفيد يقدم النقل على كل شيء، حيث يقول: “وكتاب الله تعالى مقدم على الأحاديث والروايات، وإليه يتقاضى في صحيح الأخبار وسقيمها، فما قضى به فهو الحق دون ما سواه”.
أما الإخباريون من الشيعة، فقد اقتصروا على الأخبار الواردة في الكتب الموثوقة في نظرهم وجمدوا على ظواهرها، مدعين أن تلك الأخبار مقطوعة الصدور عن الأئمة، رغم ما فيها من اختلاف وتعارض، ومنعوا الاجتهاد، ولم يجيزوا التقليد، وعابوا على إخوانهم الأصوليين الاجتهاد، ورموهم بالخروج عن المذهب، ومشايعة العامة، وهاجموا علم الأصول، وحظروا الاشتغال به، مدعين أن مبانيه كلها عقلية لا تعتمد على الأخبار. فالذي وقفنا عليه من كلام متأخريهم ما بين إفراط وتفريط، فمنهم من منع فهم شيء منه مطلقاً حتى مثل قوله: (قل هو الله أحد)، إلا بتفسير من أصحاب العصمة(u)، ومنهم من جوز ذلك حتى كاد يدعي المشاركة لأهل العصمة في تأويل مشكلاته وحل مبهماته. إذن هناك أصوليون يوفقون بين العقل والنقل تارة، وتارة يقدمون النقل ويجعلون العقل رابع الأدلة، وهناك إخباريون، يعودون بكل شيء إلى المعصوم وهم مقسومون إلى قسمين أيضاً.
أما المذهب الزيدي، فإنهم يقدمون العقل على القرآن، إذ جاء في “الفصول اللؤلؤية للأصول الزيدية لصارم الدين الوزير” : “وكيفية الاجتهاد في الحداثة، أن يقدم المجتهد عند استدلاله قضية العقل المبتوتة، ثم الإجماع المعلوم، ثم نصوص الكتاب والسنة المعلومة، ثم ظواهرها كعمومها، ثم نصوص أخبار الآحاد، ثم ظواهرها كعمومها، ثم مفهومات الكتاب والسنة على مراتبها، ثم مفهومات أخبار الآحاد، ثم الأفعال والتقديرات كذلك، ثم القياس على مراتبه، ثم ضروب الاجتهاد الأخرى، ثم البراءة الأصلية ونحوها”. إن هذا الكلام يستفاد منه أن قضايا العقل القطعية هي في المرتبة الأولى، كما يستفاد منه أن الإجماع المتواتر المجموع به مقدم على نصوص القرآن الكريم والسنة المتواترة والمعلومة.
يأخذ جمال البنا النص المذكور في النصوص اللؤلؤية، ويقطع بأن الزيدية يقدمون العقل على النقل، إلا أن أبو زهرة يوضح أن العقل الذي يقدم على النصوص، هو القضايا العقلية المقطوع بها من حيث معرفة الله، وإثبات النبوة، وكون القرآن من عند الله تعالى؛ وليس معنى ذلك أن قضايا العقل في التكليف وإصدار الأحكام مقدمة على نصوص القرآن والسنة. وقد استمر خلاف تقديم وتأخير العقل على النقل أو العكس، حتى يومنا هذا، فما زال يمثل فكراً خلافياً بين من يؤمن بأولوية العقل على النقل، أو من يؤمن بأسبقية النقل على العقل، حتى باتت هذه الإشكالية من المرتكزات الرئيسة في نشأة علم الكلام الجديد في الفكر العربي والإسلامي المعاصر. وسنفصل القول في ذلك لاحقاً.