ميد هندو: يكفينا من النوم حين نموت

منصة 2024/07/24
...

 يقظان التقي

يعد ميد هندو (1936 – 2019)  واحداً من كبار المخرجين الموريتانيين، وفي رصيده العديد من الأفلام السينمائية وبعضها لم يعرض في موريتانيا إلى الآن، هو شخصية فنيَّة تحركت في بيئة فهم الصورة السينمائية مستفيداً من تجربة الفرنسيين والمصريين في إطار انتاجات مشتركة منذ الستينات، وبداية مع أفلام وثائقيّة حملت اسمه إلى جانب أسماء أمثال سيدين سوخاني ومحمد ولد السالك وآخرين.
ميد هندو يتحرّك في هذه البيئة الموريتانية والده كان سنغالياً وأمه موريتانية، وينحدر أسلافه من السودان. ولهذا فهو يتمتع بجذور أثنية متعددة.
بدأ هندو حياته طباخاً، ثم هاجر إلى مرسيليا عاملاً في الميناء، ثم في قطف التفاح في الحقول الفرنسية ومطاعم الضاحية الباريسية، ما مكّنه من إقامة علاقات مع مجموعات مختلفة من المجتمع الفرنسي، وفي هجرته تلقى دروساً في التمثيل المسرحي وأسس مع عدد من أصدقائه في أفريقيا وأميركا اللاتينية مجموعة مسرحية لأداء مسرحيات لكنهم مؤلفون أفرو – أميركيون.
هندو أدى أدواراً في أفلام للمخرجين كوستا غافراس، وجون هيوستون وروبرت ايكر ولمع ببشرته السمراء على الكاميرا، التي عمل عليها لاحقاً مساعد مخرج، ثم مخرجاً لأفلام قصيرة.
عالجت أفلامه قصص المنابع والجذور ومشكلة الهجرة الأفريقية، ومن فيلم «كل مكان لا مكان» يعالج قصة زوجين فرنسيين بعيون أفريقية.
ففي عام 1969 ينتج هندو «Soleil-o» الفيلم الروائي الطويل الذي يدور حول التمييز العنصري، ويروي شبه سيرة ذاتية عن شاب أفريقي أسود أتى إلى باريس بأمل الحصول على وظيفة محاسب، ويواجه صعوبات جمّة كشخص مرفوض وغير مرغوب به، مما يدفعه إلى حافة الجنون وغابة من أحاسيس الألم والتوتر.
الفيلم ملتزم سياسياً بقضايا الأرض والاستعمار، واسمه عمل دلالة رمزية، أغنية قديمة كان يغنيها الرمتو الأفارقة أيام الاستعباد، وقد ربط هندو بين مرحلة الرقّ ومرحلة الاستعمار.
هندو شخصية فنية مركبة من طبقات ومستويات، كولاج يجمع في أفلامه بين التشخيص المسرحي والوثائقية والمقابلات وقصص الحياة الحقيقية، واهتماماته على تنوعها واحدة: الوهم، الوطن، الحياة، عنصرية الأبيض وجدلية التناقض بين الأفارقة أنفسهم. أول شيء مفاجئ في شخصية هندو الذي يحمل صوتاً غنائياً إلى الإخراج السينمائي ويشغل موقعاً مهماً إلى جانب الممثلين الأميركيين السود مثل ادي مورفي ومورغان فريمان، هو صوته الآتي من الجذور والينابيع، الصوت العائلي والودي العسكري والحاد في آن، مثله مثل الممثلين الأميركيين السود ريتشارد بريور، كارل ويذرس.. الصوت العالي النبرة وهو الأقرب إلى صوت ادّي مورفي.  هندو ابن زمنين مع أن فيلمه الأول مضى عليه زمن طويل، فقد استعيد في إطار فعاليات مهرجان كان «السينما العالمية»، في عرضها الأفلام الكلاسيكية القديمة والتي تمثل ذلك «الضوء الأسود»، كما عنوان فيلمه الآخير، ومن أفلام "ملك الحبال" و"يكفينا من النوم حين نموت"  و"البوليساريو.. شعب مسلح"  و"ساراوينا" و"وطني" و"فاطمة" وكان آخر أفلامه حيث عمل بعدها في الدبلجة.
ميد هندو بلا شك مخرجاً موهوباً، أحدثت أفلامه ضجة واسعة ليس على نطاق السينما العربية الأفريقية، وإنما على مستوى السينما العالمية عندما نال كثيراً من الجوائز في المهرجانات الدولية، إذ ولد وهو يسرد حكاية الهجرة في السينما الأفريقية بعد صراع من أجل الاستقلال ومشكلات المهاجرين منذ الستينات والسبعينات وأفلاماً وثائقية تمثل شهادات واقعية عن أحوال البؤس، إلى شريط ذاتي عن حياته الشخصية، وصوته الذي يحمل نبرات الشارع الذي ينتمي إليه.
يروي هندو كيف وصل إلى فرنسا في نهاية الخمسينات من غرب موريتانيا وهو من جذور «Haratine» كانوا عبيداً أو سجناء، والده كان سجيناً، وكيف انتقل من قرية إلى قرية على ظهر حنطور، وكيف ولدت معه حاسة الحكواتي من العلاقة المباشرة مع الناس. بعدها انتقل إلى الرباط في المغرب إبان حكم الاستعمار الفرنسي، وانتسب إلى مدرسة في لوران واناماس. عبر تلك العلاقة انتقل إلى فرنسا، إلى مارسيليا حيث عمل في مطابخها ومطاعمها طويلاً.
في نهاية تلك المرحلة ومع الإعلان عن «استقلال الجزائر» بدأت اهتماماته المسرحية.
تلقى هندو دروساً في المسرح الدرامي ونشط في الدروس الخصوصية، بعدما التقى بمارسيل مارسو الذي أعطاه دروساً في الفن الدرامي وأشياء كثيرة أخرى، وبموازاة ذلك تلقى دروساً في الكونسرفتوار الوطني للسينما الفرنسية في باريس، وتعلّم تقنيات التمثيل والإخراج السينمائي.
ويروي هندو معاناته «اللغويَّة» في قراءة النصوص الدارمية، إذ إن لهجته الأفريقية لم تساعده كثيراً، وكان عليه قراءة الجرائد يومياً ووضع قلم في فمه للمساعدة على النطق الصحيح وكانت قراءة ستانيسلافكي معاناة كبرى، عذابات لا نهائيّة، وكذلك كتب فرانسواز روزاي زوجة جاك فايدر، ويعترف أنّه لم يتمكن من شراء كتابها، لأنه كان معدماً، لا يملك نقوداً لذلك. ومن خلال تلك الدروس تمكن من العمل مساعد مخرج وفهم جيداً كيفية صناعة فيلم سينمائي تقنياً.
في تلك المرحلة التقى هندو روبرت لينسول بطل فيلمه «Soleil Ô» ورفيقه على المسرح.
يقول هندو «التقيته حالما وصل إلى باريس مع فرقته، وعرضت عليه فكر العمل سوياً واقترحت عليه المشاركة في فيلم سينمائي، وكان يميل إلى التمثيل المسرحي وجهاً لوجه في علاقة مباشرة مع الجمهور. وهكذا، وجّهتُه نحو السينما وكان تفكيري في مسألة الصراع من أجل الاستقلال ونقد الأوضاع الصعبة التي عشناها كعرقية سوداء في مارسيليا وفي باريس. وهكذا قررنا القفز في خطوات متقدمة، وهكذا ولد الفيلم، «Soleil Ô» مغامرة مجنونة، نوع من الوهم والحلم والحب والجنون والهدف كان أخذ موقع وفتح حوار مع الآخرين. والجنون أننا لم نكن نملك مالاً لإنتاج الفيلم بعد إنجازي فيلمين قصيرين.
ويضيف هندو: أنجزت سيناريو الفيلم العام 1968 أيام الثورة الطلابية الفرنسية، وكانت بيئة جاذبة ومساعدة، تتكلم عن هواء المكان الباريسي، ثورة الشباب والعمال والطلاب والفلاحين كان مزاجاً رائعاً ومثالياً لإنجاز الفيلم.
لكن الفيلم يوثق حياة العاملين الأفارقة المهاجرين إلى فرنسا في الستينات، هذا أمر توثيقي مفقود تقريباً؟
- مطلقاً. كان مهماً بالنسبة لي تصوير تلك الأماكن، الفنادق، المطاعم حيث يعمل الأفارقة، أصحاب البشرة السوداء يحترقون في المطابخ، التمييز العرقي... أمور مرعبة، مخيفة، أردت تسجيل تلك الأصوات، النبرات، الأجساد التي تكاد تحترق. شروط إنسانية غير طبيعية في ظلال النيو-كولينيالية. أنجزت فيلماً وثائقياً شهادة على ذلك الزمن، ووثقت حضوري الشخصي في تلك المرحلة كأفريقي أيضاً. صعدت بكل أفريقيا إلى الفريق وجعلت أفريقيا أكثر مرئية وأكثر ترابطاً والفيلم يحمل قضية سياسية من دون مواربة في محيط عرضه السينمائي.
استغرق إنجاز الفيلم سنوات ثلاث متتالية من دون دفع بدل أتعاب للممثلين والتقنيين، وحين كانت تتوافر بعض الأموال، كنت أنعش الفريق ببعض الجولات السياحية، والبعض أعتقد أنه فيلم قصير وثائقي. كنت محظوظاً بكل الفريق وبفريق من المساعدين. أريد الآن أن أعتذر منهم جميعاً وأراهم واحداً واحداً وأؤمن فيهم واحداً واحداً.
فيلم «Soleil Ô» حصل في العام 1970 في كان على جائزة السعفة الذهبية. "كان تجربة عظيمة، الصحافة والإعلام وميشال سيمنت ودوره الإيجابي، والموزع جاك مارشال. كل منهم ساعد على صعود الفيلم إلى العروض السينمائية اللاحقة وإلى شباك التذاكر لاحقاً لدفع بدل أتعاب 80 شخصاً كانوا معي. بعدها أسست مؤسسة تُعنى بالإنتاج وتوزيع أفلامي".
مع ذلك لم يعرض فيلمك في موريتانيا؟: للأسف، كنت أصارع من أجل السينما الوطنية في بلدي والأمر يزعجني، أضغط على أسناني كثيراً متألماً.
ولكن الأمور تتجه نحو معنى مهم أن تلعب دور السينما والصالات الأفريقية دورها في مواجهة الاستعمار والبربرية الجديدة، الأمور إيجابية في هذا المنحى الاستقلالي، وتتحدث عن سينما أفريقية جديدة، وعلينا دعمها وعدم تركها وحيدة وانطلاقها من عزلتها ووحدتها ومن المظاهر الفولكلورية، وهناك بعض الأسماء الواعدة التي التقيتها في الثمانينات في ميامي مثل "أومارو غندا وعثمان سامبيني وطاهر شريعة" وآخرين.
الأمور تحتاج إلى دعم مالي للسينمائيين، والأهم من الأموال التعاون المشترك وتضافر الجهود المشتركة وبعضهم من السينمائيين يتصرف كأنه رئيس البلاد حالياً!