الحبُّ خرافة العقل البشري

ثقافة 2024/07/24
...

  جينا سلطان

إذا حاولنا الاقتراب قليلاً من الموضوعيَّة لربما وجدنا أن معظمنا يفتقد إلى عيش الحياة بكامل زخمها، إذ يبقى دوماً رهينَ الظلال المقصيَّة إلى الأعماق، مما يخلخل الاندماج بالفعالية الطاقية الممنوحة له قدريّاً. وهو ما عكسه الروائي البريطاني من أصول هندية ف، س، نايبول في روايته "نصف حياة"، حين تعقب التناصف ودوره في انشطار الهوية على الصعيدين الفردي والجمعي، وردّه إلى النظام الطبقي في موطنه، الذي يستلب الحقوق الإنسانية ويحول الفرد إلى كائن هامشي عابر لا يملك ثباتاً مادياً أو قيمة مضافة تؤهله لتفعيل حياته، إذ يتخبّط غارقاً في أبديَّة الكارما. بالمقابل، قاد الحصول على نصف الحقيقة فقط في رواية "خاتم سليمى" للكاتبة السورية ريما بالي إلى حياة ترتكز على الأوهام والخيالات الجامحة، التي تنتهي بمواجهة أليمة تستعيد مأزق الهويات القاتلة عند الروائي الفرانكفوني أمين معلوف.
توشح عبارات المثنوي لجلال الدين الرومي رواية "خاتم سليمى"، فتمنحها نكهة صوفيَّة ميزت حلب الشهباء، منذ أيام سيف الدولة الحمداني، قبل أن تقدم جحافل الغزو العثماني على طمس ملامح المدينة وراء أستار الظلمات، لتنتعش مجدداً في الموشحات والقدود الحلبية. وتبتدئ تلك الاقتباسات بمقاربة سريعة لليقظة المقترنة بالألم، والوعي الذي يجعل المرء أكثر شحوباً، ويؤطر المعرفة بوصفها طريقاً أحادي الاتجاه، لا مجال فيه للتراجع أو الانسحاب، فمجرد أن تدرك الروح حقيقة ما، تلازمها تلك الحقيقة طوال الحياة.
تدور الرواية حول المراهقة الحلبية الفاتنة سلمى التي تتولع بعازف إيطالي يكبرها بسنوات كثيرة، يكني نفسه باسم شمس الدين، تيمناً بالتبريزي معلم جلال الدين الرومي. ويعمد الكهل إلى تأجيل الوصال مدة عامين حتى نضجها، ثم يجددهما كلما حان أوان اللقاء. ويهديها كتاب المثنوي لتبحر فيه، فتصل إلى نصف حقيقة مفادها أنها لا تحب شمس الدين، ليقينها بأن الحب خرافة من اختراع العقل البشري. أما توقها لمعرفة النصف الآخر من الحقيقة فيتمثل في تساؤل تكرره من دون أن تصل لإجابة حاسمة أو مطمئنة: "لماذا يسكن هذا الرجل كياني وأريده أكثر من أي شيء آخر في الحياة؟!".
 تدرك سلمى أنها تلاحق خيالا غير حقيقي، لكنها لا تستطيع لجم نفسها، بل تكتفي بنسخ عبارة من المثنوي: "الطائر محلق في الأعالي، وظله منعكس على الأرض، يسرع طائرا وكأنه الطائر الحقيقي، ويصبح أحد البلهاء صيادا لذلك الظل، ويسعى كثيرا كيلا يظفر بنتيجة"، وتلصقها على مرآتها، لتتذكر كل صباح أنها ذلك الصياد الأبله الذي يسعى من أجل ألا يظفر بنتيجة، لأنها تقيده.
انصرمت تسع سنوات، لكن سلمى لم تترهبن في دير غرامها المبهم الملامح ذاك، بل تحدته وتحدت عجزها عن الانعتاق منه، ودخلت في كثير من العلاقات خلال ذلك. وفي الوقت نفسه أثثت دكانها في السوق العتيق بالقطع الأثرية النادرة، وكانت تهدي حكاية مع كل قطعة ثمينة تبيعها للزبائن، فيصبحون أسرى داخل الحكاية. ومنها قصة نسّاجة جميلة اختطفها تاجر البسط من زوجها، وحبسها في منزله، فصارت تحيك القطع المميزة الألوان والنقوش، تاركة عيبا صغيرا لا تميزه إلا عين الخبير. وحين يدرك التاجر أن الزوج بدأ يتعرّف على نسج زوجته، قام بحرمانها من اللون الأحمر، فشقت ذراعها وصبغت الخيوط بدمها حتى نفذ، وماتت قبل وصوله إليها. فاختزلت حكاية الموت القاسي من أجل الحب في صوت غناء روح معذبة مكبلة بالسلاسل تأتي في الليل لتحكي وتضحك وترقص وتبكي وتصرخ، وهي تبحث عما ضيعته في سبيل الحب.
ومع استيلاء كتائب الجيش الحر على حلب القديمة، بعد فترة تخللتها معارك كر وفر ألحقت الأضرار البليغة بالمنطقة الأثرية العريقة، فرضت سيطرتها على ما تبقى من أحياء في القسم الشرقي من المدينة. فانشطرت إلى قسمين عرفا بحلب الغربية وحلب الشرقية، الأولى تحت سيطرة الجيش النظامي والثانية تحت سيطرة معارضيه. ونشطت فجأة حركة الهروب من العنف الدائر في حلب.
أما كاهنة معبد التاريخ الحلبي فهدم الجيش الحر هيكلها، وتحطمت قوارير عطورها وعقاقيرها، وحاصر البارود بخورها، وأكلت النيران تحفها وبسطها وسجاجيدها بنقوشها المجدولة بالأحلام والأرواح والدماء. وكان ذلك أيضا هو اليوم الأخير في عمر مدينة حلب كما عرفتها سلمى، إذ خلعت فجأة كل ملامحها المزركشة والقشيبة ولبست حلة الحرب التي استحقت بجدارة لقب حرب القرن.
ومجدداً تستشهد سلمى بالمثنوي: "ما دام المصباح قد أشعل من شمعة، فكل من رآه رأى الشمعة يقينا"، لتبرر اكتفائها بنصف الحقيقة، بعد أن زادت الحرب من التصاقها المعنوي بشمس الدين، فكفت عن محاولة إيجاد رجل آخر. كذلك أوقفت أبحاثها في النبش والتحقيق عما هية الحب (التعلق)، لقناعتها بأن الحب حتى وإن كان خيالا مخترعا يصنعه وجدان مريض لغاية في نفس صاحبه، لكنه خيال مستبد يسير كل الحقائق في حياة الإنسان كلاعب خفي يحرك خيوط دماه المتحركة.
ومع أن رواية "قناع بلون السماء" للكاتب الفلسطيني الأسير باسم خندقجي نالت الاهتمام أكثر، لكونها ترتبط بسجين يحلم بوطن وبحق إنساني منتزع من براثن المحتل، إلا أن ريما بالي في خاتم سليمى قدمت رواية متكاملة من جميع النواحي، جمعت فيها بين المتعة والتشويق والبنية الدرامية التي اشتغلت عليها بحرفية عالية.
بعبارات بسيطة اختزلت بالي الحرب السورية بموقف أخوين غير شقيقين، ابني فاطمة وخديجة، تقاسما الشغف بالعزف في فرقة شمس الدين الإيطالي، ثم نحر أحدهما الآخر بعد تعذيبه تحت وطأة الضغائن الطائفيّة. بالمقابل، حلقت بذاكرة الحب الصوفي قبل أن تدخله وسط الحيرة والتشويش الملازمين للعصر الاستهلاكي، فلا يبقى منه سوى نصف حقيقة متروكة لتقاذف التفسيرات والتكهنات.